"أنا خارج المنزل في طابور الخبز حينما أعود يمكننا التحدث"، هكذا رد الخبير الاقتصادي السوداني ياسر محمد على منصة "المشهد" حينما بادرنا بسؤاله عن تأثيرات الاضطرابات الراهنة على الاقتصاد في خضم المعارك التي لا تتوقف بين الجيش وقوات الدعم السريع منذ منتصف أبريل، ليعود ويجيب علينا بعد 5 ساعات ويروي بصوت يملؤوه الحسرة معاناة أسرته كحال أغلب السودانيين في الحصول على الخبز. وتشهد مناطق متفرقة من السودان بما في ذلك العاصمة الخرطوم اشتباكات متواصلة بين طرفي النزاع على الرغم من الهدنة المعلنة منذ الأسبوع الماضي ولمدة 6 أيام تنتهي الأحد في منتصف الليل، لتدخل بذلك المعارك أسبوعها الثالث والتي أدت إلى شح حاد في السلع الغذائية والأساسية والوقود وسط عمليات نهب وسلب للمنشأة العامة والخاصة من قبل مجهولين.المعاناة القاسيةويصف الخبير الاقتصادي السوداني في حديثه مع منصة "المشهد" الوضع بـ"المعاناة القاسية"، موضحا أن رحلة البحث والحصول على عدد محدد من الخبز يوميا تستغرق 4 ساعات تقريبا، وما يصل إلى نحو 10 كيلومترات سيرا على الأقدام "نظرا لعدم توفر وقود في السيارة، خصوصا مع ارتفاع أسعاره بشكل كبير في السوق السوداء". ويضيف محمد: "كل يوم أتبادل هذا الدور مع أحد أفراد الأسرة للبحث عن الخبز الذي لا يكفي". واعتبر الصحفي السوداني المتخصص في الشأن الاقتصادي عبدالوهاب جمعة خلال حديثه مع منصة "المشهد" أن الحرب الدائرة في الوقت الراهن نقلت مستوى معيشة السودانيين إلى "الدرك الأسفل" على حد وصفه، مضيفا: "مع العلم كانت مستويات الفقر قبل الأزمة تتجاوز 60% بحسب إحصاءات رسمية، و80% وفق إحصاءات غير رسمية". ومنذ عام 2009 لم ينشر البنك الدولي أي بيانات عن معدلات الفقر في السودان من حيث عدد السكان والتي بلغت حينها 46.5%، فيما نقلت وسائل إعلام محلية في فبراير الماضي عن مفوض مفوضية الأمان الاجتماعي وخفض الفقر الحكومية عز الدين الصافي قوله إن هناك نموا مقلقا للفقر في السودان وصل إلى 65% حتى الآن. إرث الماضي واتفق المحللون والخبراء الاقتصاديون الذين تحدثوا لمنصة "المشهد" على أن الاقتتال القائم في السودان يزيد من وطأة تدهور الاقتصاد والأوضاع المعيشية الموروثة والتي شهدت بالفعل صدمة منذ انفصال الجنوب الغني بالنفط قبل أكثر من عقد، حيث أكد المحلل الاقتصادي السوداني الدكتور محمد الناير لمنصة "المشهد" أن هذه الأزمة تؤثر بصورة كبيرة على اقتصاد بلاده الذي يعاني من أزمات متلاحقة منذ سنوات ولم تستغل أيا من الحكومات المتعاقبة موارده بالشكل المناسب وسط ارتفاع معدلات الفقر والبطالة والتضخم. وفي عام 2011 أعُلن رسميا انفصال جمهورية جنوب السودان عن الشمال، واللذين شاركا معا في فورة اقتصادية لهذا البلد الغني بالموارد الطبيعية حيث شهد السودان قبل الانفصال نموا اقتصاديا تجاوز 6% في المتوسط خلال 9 سنوات في الفترة بين 2000 و2008، وهي الفترة التي عرفت بازدهار إنتاج النفط. ويضيف الناير: "الاقتصاد السوداني عانى من مشكلات كبيرة، لديه 85 مليون هكتار صالح للزراعة والمستغل منها 25% فقط. ولديه تنوع في مصادر المياه، وهناك ثروة حيوانية قوامها 110 ملايين رأس ماشية جعلته من أكبر دول العالم امتلاكا للثروة الحيوانية. كما يمتلك محاصيل زراعية متنوعة ونادرة مثل الصمغ العربي، وأرضه خصبة بالثروات المعدنية والتي على رأسها الذهب(..) كل هذا ولم يتم استغلاله بشكل جيد منذ سنوات عدة". ويتفق ياسر محمد مع ما قاله الناير، إذ يشير خلال حديثه إلى انهيار الاقتصاد المفاجئ عقب انفصال الجنوب، فضلا عن غياب الرؤى والاستراتيجيات الحكومية لإدارة الاقتصاد منذ حكم الرئيس السابق عمر البشير وحتى السنوات اللاحقة لعزله في عام 2019، قائلا: "السودان أصبح متأخرا مقارنة بدول جوار مثل إثيوبيا وكينيا وسط غياب رؤية واضحة للمستقبل". مستقبل قاتم يعتبر الصحفي المتخصص في الشأن الاقتصادي أن ما يحدث في بلاده الآن أعاد الاقتصاد إلى أكثر من عقدين من الزمان إلى حقبة ما قبل ازدهار إنتاج النفط، وذلك إلى جانب "تفاقم الأوضاع المعيشية نتيجة شح السلع وعدم توفرها، وتدهور قيمة العملة السودانية وارتفاع حدة معدلات التضخم وتوقف فرص التشغيل والتوظيف للشباب ما ينعكس بدوره على تزايد معدلات البطالة". ويعاني السودان الذي يتجاوز عدد سكانه 45 مليون نسمة من ارتفاعات كبيرة في معدلات البطالة والتضخم خلال السنوات القليلة الماضي بفعل الأزمة المحلية والعالمية، حيث بلغ متوسط معدل التضخم وفق تقديرات صندوق النقد الدولي خلال عام 2022 نحو 139%، بينما سجل معدل البطال أعلى مستوى له على الإطلاق منذ ثمانينيات القرن الماضي عند 33.1%. وحذر برنامج الأغذية العالمي من أن العنف الدائر في السودان يمكن أن يسبب أزمة إنسانية في منطقة شرق إفريقيا بأكملها، حيث قال مارتين فريك، مدير المنظمة في ألمانيا: "ثلث تعداد سكان السودان كان يتضور جوعا بالفعل قبل اندلاع الاشتباكات، الآن هناك نقص في كل شيء كما ارتفعت أسعار الغذاء بصورة كبيرة". من جهته، يضيف جمعة: "مستقبل الاقتصاد السوداني قاتم على المدى القصير والمدى الطويل(..) الأزمة السياسية الراهنة قضت على الإصلاح الاقتصادي الذي بدأ قبل عامين، وكان من المفترض أن يعزز من نمو البلاد(..) هذه الأزمة تضاف إلى سجل الأزمات الداخلية والخارجية السابقة التي عانى منها السودان وهي سوف تلقي بظلالها على السودانيين الذين عاشوا معاناة منذ أزمة كورونا وتداعيات الحرب الروسية الأوكرانية". فيما يرى المحلل الاقتصادي محمد الناير أن الاستقرار الاقتصادي في السودان مرهون بالاستقرار السياسي المتمثل في الوصول إلى توافق أطراف القوى السياسية، قائلا: "مستقبل الاقتصاد يتوقف على انتهاء الأزمة نفسها، بالتأكيد هناك نزاع ويجب التعامل معه في عدد من الولايات والمناطق، لكن الجيد هنا أن 80% من مناطق السودان مستقرة وتنعم بالأمن وذلك على خلاف الخرطوم وبعض الولايات الأخرى وهذا مؤشر إيجابي". لكن، نظرته الإيجابية هذه حول تركز المعارك في مناطق محددة تلقى على النقيض صورة قاتمة يستعرضها الصحفي عبدالوهاب جمعة خلال حديثه قائلا: "ولاية الخرطوم هي قلب الاقتصاد السوداني، ومعظم الإنتاج الصناعي والتصنيع الغذائي الموجه للتصدير يتم داخل الخرطوم. كما أن مختلف القطاعات الاقتصادية من زراعة وصناعة وطاقة وتعدين ونقل تدار من العاصمة". تقديرات الخسائر اجتمع المحللون والخبراء على أنه لا يمكن تقدير الخسائر الاقتصادية الناجمة عن الأزمة في السودان بدقة، خصوصا مع الدمار الهائل الذي لحق بالبنية التحتية والمؤسسات العامة وأعمال النهب والسلب للمؤسسات الخاصة، إلا أن الخبير الاقتصادي ياسر محمد ذكر أن السودان خسائر البنية التحتية التي دمرت خلال الأسبوعين الماضيين تتراوح بين 10و15 مليار دولار كحد أدنى. فيما يقول عبدالوهاب جمعة: "إلى جانب خسائر البنى التحتية الهائلة، فإن السودان سيفقد مليار دولار استثمارات أجنبية، ونحو 4 مليارات دولار صادرات سلعية"، مشيرا إلى تدهور قطاع التعدين في البلاد بشكل أساسي وهو أكثر القطاعات تصديرا إلى الخارج. وفي عام 2022 صدر السودان ذهبا بنحو 1.6 مليار دولار ما يمثل 44% من إجمالي الصادرات بحسب ما ذكرت وكالة أنباء السودان "سونا" يناير الماضي.بدوره، يضيف محمد الناير: "يصعب تقدير الخسائر الاقتصادية(..) لكن بالتأكيد ما يحدث سيؤثر على السودان لسنوات عدة وتتوقف تقديرات الخسائر على مدة الحرب. ففي حال انتهاء الأزمة خلال الأسابيع القليلة المقبلة فيمكن احتواء التداعيات والخسائر الاقتصادية وإعادة توازن الاقتصاد في فترة زمنية قصيرة، أما إذا استمر النزاع لفترة أطول فهذا يزيد من صعوبة إعادة بناء الاقتصاد السوداني وقد يستغرق ذلك فترة زمنية أطول وبالتالي الأثر سيكون كبيرا للغاية".وقبل يومين حذرت وكالة التصنيفات الائتمانية "موديز" من تطور الاشتباكات في السودان إلى حرب أهلية طويلة ودمار البنية التحتية وتدهور الأوضاع الاجتماعية، مما سيؤدي إلى عواقب اقتصادية طويلة المدى وتراجع جودة أصول البنوك متعددة الأطراف في السودان إلى جانب ارتفاع القروض المتعثرة وانخفاض السيولة.(المشهد)