وسط نقاشات حول استقلاليته وعلاقته بالسلطة التنفيذية، عيّن الرئيس التونسيّ قيس سعيّد نهاية الأسبوع الماضي، محافظًا جديدًا للبنك المركزيّ يقول الخبراء إنه سيكون في مواجهة ملفات شائكة بالجملة، في بلد تخنقه أزمة اقتصادية حادة تفاقمت منذ حكم "الإخوان"، وفقًا لمراقبين.وسمّى سعيّد فتحي النوري محافظًا جديدًا للمصرف المركزيّ خلفًا لمروان العباسي الذي استمر في هذا المنصبة منذ 6 سنوات. ويعود النوري إلى البنك المركزيّ محافظًا، بعد أن سبق أن شغل منصب عضو في مجلس إدارة البنك، وهو أستاذ اقتصاد في الجامعة التونسية، وحاصل على شهادة الدكتوراه في اقتصاد الطاقة. البنك المركزيّ التونسيوكان هذا التغيير على رأس المصرف المركزيّ التونسيّ متوقعًا بعد أشهر من البرود والخلافات المعلنة أحيانًا بين الرئيس التونسيّ والمحافظ السابق مروان العباسي، بسبب ملفات عديدة تتعلق بتسيير المؤسسة البنكية وأبرزها استقلالية المصرف المركزي. وفي وقت انتقد فيه سعيّد في مناسبات متكررة قانون استقلالية أعلى مؤسسة بنكية في تونس، مطالبًا بتعديله، تمسّك العباسي به وحذّر من خطورة المساس منه. وزادت الخطوة الأخيرة التي أقدمت عليها الحكومة من حدّة الخلاف بين الرجلين، فقد صوّت البرلمان التونسيّ قبل أيّام على مشروع قانون استثنائيّ يمكّن البنك المركزيّ من منح تسهيلات لفائدة الخزينة العامّة للدولة، وهو ما رفضه العباسي بشدة، محذرًا من تداعياتها المحتملة على التضخّم وقيمة الدينار، مؤكدًا أنّ ذلك يضع تونس على خطى سيناريو فينزويلا، وبلغ الأمر حدّ غيابه عن جلسة التصويت. وشددت على ذلك الحكومة منح المصرف المركزيّ تسهيلات لفائدة الخزينة العامة للبلاد التونسية، في حدود مبلغ صاف قُدّر بـ7 مليارات دينار يُسدّد على مدة 10 سنوات منها 3 سنوات إمهال، ومن دون توظيف فوائد"، وستتيح هذه المبالغ "تمويل جزء من عجر ميزانية الدولة لسنة 2024" بما في ذلك الديون الخارجية. استقلالية المصرف ويواجه المحافظ الجديد جملة من التحديات المالية والاقتصادية الصعبة في بلد يعاني ارتفاع نسب المديونية وشحّ السيولة، وتراجع نسب الاستثمار والتنمية، مقابل مخاوف من انزلاق العملية المحلية وتراجع رصيد الاحتياطيّ الأجنبيّ وارتفاع نسب التضخم. ويترقّب الجميع موقف المحافظ الجديد الذي يوصف بـ"الليبيرالي"، من المسائل الخلافية التي كانت محور خلاف بين الرئيس سعيّد والمحافظ السابق، وفي مقدمتها مسألة استقلالية المصرف المركزيّ وتمويله المباشر لموازنة الدولة، والموقف من المصارف المحلية. وتقول الكاتبة المتخصّصة في الاقتصاد إيمان الحامدي لمنصّة "المشهد"، إنّ أهمّ التحديات المطروحة على المحافظ الجديد، هي التمسك بما تبقّى من استقلالية البنك المركزي، بعد أن نجحت السلطات في كسر الحاجز للنفاذ إلى التمويلات المباشرة للخزينة من البنك المركزيّ التونسي، والحصول على ترخيص استثنائيّ باقتراض 7 مليارات دينار بنسبة فائدة تساوي صفرًا، وفترة سداد تصل إلى 10 سنوات. وفي عام 2016، أقر البرلمان السابق قانونًا يمنح البنك استقلالية كبيرة، لكنّ سعيّد انتقد هذا القانون، معتبرًا أنه "خطة مفروضة من الخارج"، في إشارة إلى فترة حكم النهضة. العلاقة مع صندوق النقد الدولي وعُرف عن النوري دفاعه عن فكرة ضرورة التعاون مع صندوق النقد الدولي، وهو ما يتناقض مع موقف الرئيس سعيّد الذي يبدو أنه أغلق الباب أمام هذه الفكرة، متمسكًا برفض الإصلاحات الموجعة التي يطلبها، بما في ذلك رفع الدعم، وواصفًا إياها بـ"الإملاءات الخارجية". ودخلت تونس منذ عام 2021 في مفاوضات شاقة مع صندوق النقد الدوليّ من أجل الحصول على قرض بقيمة 1.9 مليار دولار، لكنّ هذه المفاوضات تعثرت، بينما أعدت الحكومة موازنة للعام الجديد لم تشر فيها لأوّل مرة إلى هذا القرض كمصدر لتعبئة الموارد. و"لعلّ ملف المديونية وسداد الديون في أجلها، هو واحد من الملفات الحارقة والمستعجلة التي على المحافظ الجديد التعامل معها"، بحسب الحامدي التي تقول إنّ "النوري سيكون في مواجهة سداد قرض مستحق بقيمة 900 مليون دولار، حلّ أجَل سداده الجمعة الماضي".وتصل قيمة الديون التي على تونس سدادها هذا العام 8 مليارات دولار. وكانت وزيرة المالية التونسية سهام نمصية قد أكدت في وقت سابق، أنّ بلدها سدّد جميع ديونه العام الماضي مجددة التزامه بتسديد الديون المستحقة لهذا العام.قيمة العملة التونسيةفي المقابل، يرى المدير السابق بالبنك المركزيّ محمد سويلم، أنّ المحافظ الجديد مطالب بمواصلة مسار كبح التضخم والمحافظة على المنحى التنازليّ له، في ظلّ مخاطر ارتفاع أسعار الطاقة والمحروقات وواردات الغذاء. ويزيد أنّ مراجعة نسبة الفائدة المديرية في ظل التراجع المتواصل لنسب التضخم، قد تكون من القرارات المهمة والمنتظرة بالنسبة للمحافظ الجديد. ويوضّح في تصريح لمنصّة "المشهد"، أنه "بعد تجاوز نسبة التضخم لـ10% خلال عام 2021 و2022 سجلت تراجعا مهمًا لتبلغ حدود 7.8%"، ويتابع، "إذا ما استمر هذا المنحى فربّما يستوجب مراجعة نسبة الفائدة المديرية"، ويضيف أنه في فترة ما انتهج المصرف المركزيّ سياسة محافِظة لتطويق أزمة التضخم، وكان ذلك له انعكاساته على حساب الاستثمار الذي عرف ركودًا.ويقول سويلم إنّ النوري الذي كان عضوًا في مجلس إدارة البنك المركزي له دراية بالتحديات المطروحة على هذه المؤسسة، لكنه اليوم يمر من موقع المراقب للتسيير إلى موقع المنفّذ وصانع القرار، وهذا سيكون من "أبرز التحديات التي سيواجهها في البداية" وفق تقديره. ويعتبر أنّ أولويات الاقتصاد التونسيّ والبنك المركزيّ في هذه المرحلة معروفة، وأهمها الحفاظ على استقرار العملة وعلى الاستقرار الماليّ في السوق، وتوفير السيولة للبنوك حتى يتوافر للاقتصاد التونسيّ ما هو في حاجة له.(المشهد)