في أحدث فصل من سلسلة الانتكاسات التي تتعرض لها سوق العملات الرقمية المشفرة منذ العام الماضي، أعلن أكبر بنك تشفير في الولايات المتحدة "سيلفرغيت" هذا الأسبوع السير في إجراءات التصفية الطوعية، بعدما سحب العملاء مليارات الدولارات خلال الأشهر القليلة الماضي على خلفية التحقيقات المتعلقة بعملياته مع منصة "FTX" التي أفلست في نوفمبر 2022. وتجري وزارة العدل الأميركية تحقيقات موسعة منذ العام الماضي، حول علاقات منصة "FTX" عقب إلقاء القبض على رئيسها التنفيذي سام بانكمان فرايد بتهمة الاحتيال المالي، حيث تصف التقرير الصحفية الأميركية ما حدث على أنها أكبر عملية احتيال مالي في تاريخ الولايات المتحدة، خصوصا أن فرايد الذي أسس المنصة في عام 2019، كان ضمن قائمة أصغر أثرياء العالم، بثروة قدرتها مجلة فوربس الأميركية عند 24 مليار دولار.وتزامنا مع ما يحدث، شهدت أسعار العملات المشفرة خلال العام الماضي تراجعات كبيرة، حيث فقد رأس المال السوقي ما يقرب من 1.5 تريليون دولار خلال عام، ليسجل في نهاية ديسمبر الماضي 840 مليار دولار مقابل 2.368 تريليون دولار في نهاية 2021.أسعار غير منطقية يرى محللون تحدثوا مع منصة "المشهد" أن تراجعات أسعار العملات المشفرة خلال العام الماضي، يعتبر أمرا طبيعيا ومتوقعا، نظرا لأن ارتفاعات الأسعار خلال فترة انتشار الوباء كانت غير منطقية.ومع انتشار جائحة "كوفيد-19" قبل أكثر من 3 أعوام، انتعشت سوق العملات المشفرة بشكل واسع، للدرجة التي دفع أسعار عملة "البيتكوين"، وهي العملة الأكثر شهرة والأعلى سعرا في سوق التشفير، إلى الصعود لمستويات تقترب من 64 ألف دولار في عام 2021، قبل أن تنهار إلى ما دون 16 ألفا خلال 2022. وأكد المحلل الاقتصادي الإماراتي نايل الجوابرة خلال حديثه مع منصة "المشهد" أن "أسعار العملات المشفرة وصلت إلى مستويات غير منطقية قبل عامين بفعل الإقبال الكبير من المستثمرين والأشخاص للاستثمار في هذا النوع الذي اعتبره جزءا ليس بالقليل أنه مستقبل العملات"، مضيفا: "الآن أصبحت سوق التشفير تُعاني بالفعل". واتفق المحلل الاقتصادي والمدير التنفيذي لشركة "VI Markets" في مصر، أحمد معطي مع الجوابرة، قائلا: "البيئة خلال الوباء كانت مهيئة تماما لارتفاعات الأسعار (..) كانت البلدان تركز على مكافحة الوباء، ولا يوجد أي دعوات لتنظيم السوق ما أعطاه الحرية الكامل للتوسع والازدهار. فضلا عن تشجيع بعض المؤثرين الذين يحظون بثقة أمثال إيلون ماسك، المستخدمين على الاستثمار في هذه السوق بدعوى أنها المستقبل". وكان الملياردير الأميركي إيلون ماسك من أبرز الداعمين لسوق العملات المشفرة، إذ كان من حين إلى آخر يغرد حول الاستثمار فيها، كما أنه قرر في يونيو 2021، قبول عملة "البيتكوين" كوسيلة لشراء سيارات "تيسلا" الكهربائية، قبل أن يتراجع عن ذلك في أقل من شهرين ويعلن إيقاف قبول العملة الرقمية في المدفوعات. ويضيف معطي خلال حديثه مع منصة "المشهد": "خلال فترة الجائحة وفي ظل ارتفاع معدلات البطالة، لجأت الناس للاستثمار في العملات المشفرة (..) لكن هذا الوضع تغير تماما قبل أكثر من عام مع إنهاء قيود الإغلاق المرتبطة بفيروس كورونا، وتيقن البنوك المركزية لأخطار العملات المشفرة وتأثيراتها السلبية على السياسة النقدية، وتبدأ في إطلاق التحذير بشأنها ما دفعها نحو الخسارة الكبيرة خلال الأشهر الـ 15 ماضية". انهيار الثقة يُحذّر صندوق النقد الدولي في أكثر من مناسبة وفي تقارير عدة من تأثيرات العملات المشفرة على الاستقرار المالي العالمي، كان أخرها فبراير الماضي، حينما دعت مديرة صندوق النقد كريستالينا غورغيفا، البنوك المركزية العالمية إلى السعي نحو تنظيم سوق العملات المشفرة، قائلة: "إن مجلس الاستقرار المالي وصندوق النقد الدولي وبنك التسويات الدولية ملتزمون بتقديم أساس لتنظيم العملات المشفرة الخاصة". وفي ضربة قاسمة لسوق التشفير، منعت الصين البنوك وشركات تحويل الأموال من التعامل بالعملات المشفرة في سبتمبر من 2022، وحذرت المستثمرين من المضاربة فيها، وهي خطوة اتخذها العديد من البلدان حول العالم خلال الأعوام الأخيرة بما فيها بنوك مركزية عربية. بدأت الدول الآن تفكر بشكل جدي في تنظيم سوق العملات المشفرة أو حظر التعامل فيه كما فعلت الصين، بحسب ما يقول معطي والذي أضاف: "كل هذا تسبب في الانهيارات الحالية بالسوق، وأثر على ثقة المستثمرين في هذا النوع من العملات". وفي فبراير الماضي، أشارت وكالة "فرانس برس" في تقرير لها، إلى انخفاض الثقة في الأصول المشفرة إلى أدنى مستوى منذ انهيار منصة "FTX"، وخضوع بورصة "باينانس"، وهي أكبر بورصة للعملات المشفرة في العالم، في الوقت الراهن لتحقيقات أميركية تتعلق بتهم غسل الأموال وانتهاك العقوبات الدولية. ويتوقع المحلل الاقتصادي الإماراتي استمرار إفلاس المزيد من المنصات وبورصات العملات المشفرة خلال الفترة المقبلة، قائلا: "حتى اللحظة لا يوجد رقابة أو تنظيما فيما يتعلق بشراء وبيع العملات المشفرة، وهذا يجعل عملياتها مشبوهة بشكل كبير". وفي تقرير منشور عبر موقعه الإلكتروني، يقول البنك المركزي الأوروبي إن "الأصول المشفرة تفتقر إلى القيمة الاقتصادية الجوهرية أو الأصول المرجعية، في حين أن استخدامها المتكرر كأداة للمضاربة، وتقلب أسعارها الشديد واستهلاكها للطاقة، واستخدامها في تمويل الأنشطة غير المشروعة، يجعلها أدوات شديدة الخطورة"، محذرا من ارتباطها بغسل الأموال ونزاهة السوق وحماية المستهلك، ما يؤثر على الاستقرار المالي. يرى المدير التنفيذي لشركة "VI Markets"، أن تواصل أسعار العملات المشفرة المزيد من الضغوط خلال عام 2023، "أتوقع المزيد من التراجعات في ظل الأزمات المتتالية وعدم الثقة من المستثمرين، وتراجع معدلات البطالة عالميا"، ليضيف: "حينما يعمل الناس يقل تركيزهم بشأن المضاربات والتداول في هذا السوق.. هناك المزيد من التراجعات وسينخفض سعر البيتكوين دون العشرين ألفا مرة أخرى". هل اقترب الشتاء؟ وحول ما تحتاج إليه سوق التشفير لتفادي دخول إلى شتاء طويل قد يدفع الشركات نحو المزيد من الإفلاس والتصفية، اتفق المحللون على أن هناك حاجة ملحة إلى إعادة تنظيم السوق بشكل مباشر، إذ يقول الجوابرة: "الفترة القادمة ستشهد المزيد من التحركات بقيادة الولايات المتحدة لوضع قوانين منظمة للسوق بما يضمن مشروعية العملات المشفرة أو استبدالها بعملات رقمية". من جهته، وصف معطي سوق العملات المشفرة في الوقت الحالي باعتباره "غابة"، قائلا: "الأسواق غير الخاضعة للرقابة والتنظيم تكون بمثابة غابة (..) لتفادي المزيد من الخسائر والإفلاسات في هذا القطاع يجب إخضاعه إلى التنظيم، أو المنع بشكل كامل". وفي ورقة بحثية، نشرت سبتمبر الماضي، قال مسؤولون بإدارة الأسواق النقدية والرأسمالية في صندوق النقد الدولي إنه يجب العمل على بناء نسيج تنظيمي لسوق العملات الرقمية المشفرة، داعيين إلى استجابة عالمية منسَّقة ومتسقة وشاملة تغطي جميع جوانب منظومة العملات المشفرة والأطراف الفاعلة فيها. واختتم مسؤولو صندوق النقد مذكرتهم بالقول: "سيكفل وجود إطار تنظيمي عالمي حفظ النظام في الأسواق، كما سيساعد على كسب ثقة المستهلك، وتعيين حدود ما هو مسموح به، وتوفير مساحة آمنة لاستمرار الابتكار النافع".(المشهد)