بدأت تتكشّف منذ نوفمبر الماضي حينما أطلقت شركة "أوبن إيه آي" تطبيق "تشات جي بي تي" للذكاء الاصطناعي، مراحل متقدّمة لثورة هائلة تنتظر العالم في المستقبل القريب، فبعد ثورات صناعيّة متلاحقة منذ خمسينيات القرن الثامن عشر وصولاً إلى ثورة رقميّة في مطلع الألفيّة الثانية، حان الوقت لتستقبل البشريّة ثورة جديدة أكثر تسارعاً يراها البعض المستقبل، بينما ينظر إليها المتشائمون باعتبارها ستكون فناء البشريّة.ومنذ الكشف عن تطبيق "تشات جي بي تي" للذكاء الاصطناعي التوليدي قبل أكثر من 8 أشهر، دخلت الكثير من الشركات العالمية في سباق التسلّح بالذكاء الاصطناعي، حيث عملت "مايكروسوفت" و"غوغل" و"ميتا" إلى جانب مؤسسات التجارة الإلكترونيّة والتكنولوجية المالية الأخرى في تطوير برمجياتها الخاصة محاولة منها لعدم التخلّف عن ركب هذه الثورة الهائلة.وخلال الأشهر القليلة الماضية أعلنت "مايكروسوفت" الاستعانة بـ"تشات جي بي تي" في محرّكها للبحث "بينغ"، فيما أعلنت شركات "غوغل" إطلاق الروبوت "بارد" ضمن مرحلة تجريبيّة. هذا إلى جانب الشركات الصينيّة "علي بابا" و"بايدو" اللتين أعلنتا دخول تطوير روبوتات محادثة خاصّة تعتمد على الذكاء الاصطناعي.وقبل أسبوع أعلنت "ميتا بلاتفورمز" أنّها ستوفّر للباحثين إمكانية الوصول إلى نموذج ذكاء اصطناعي جديد "شبيه بالبشر" والذي سيمكّنهم من تحليل واستكمال الصور بدرجة دقّة أعلى من النماذج الحالية.أكثر تسارعاًرائد الأعمال المصري-السعودي والمؤسّس والرئيس التنفيذي لشركة "Vectara" التي تتّخذ من "سيليكون فالي" مقراً لها عمرو عوض الله يقول خلال حديثه مع منصّة "المشهد" إنّ الذكاء الاصطناعي شهد تطوراً متسارعاً للغاية منذ العام الماضي في كافّة أنحاء العالم، "وهي المرّة الأولى التي نرى فيها هذا التسارع، ما يحدث أشبه بما حدث بالثورات الصناعية، لكنّه سيكون بشكل أسرع تماماً".ويضيف: "البلدان التي نجحت في مواكبة الثورات الصناعية المتلاحقة مثل ألمانيا وكوريا الجنوبية واليابان والولايات المتحدة، باتت الآن الرائدة واقتصاداتها هي الأقوى. اليوم نحن في خضمّ ثورة ذكاء اصطناعي والدول التي ستكون قادرة على تطويرها واستخدامها بشكل صحيح هي من ستكون الرابح الأكبر في المستقبل".وتابع عوض الله: "منذ سنوات نرى مقدّمات هذه الثورة. لو نظرنا على أكبر 5 شركات في العالم من حيث القيمة، نجد منها 4 تتخصّص في التكنولوجيا والذّكاء الاصطناعي".وتتصدّر شركة "آبل" الأميركية الشركات في العالم من حيث القيمة السوقيّة التي تقترب من 3 تريليونات دولار، وتأتي بعدها مايكروسوفت بقيمة 2.5 تريليون دولار، ثم ألفابت المالكة لـ"غوغل" بنحو 1.5 تريليون دولار، وأمازون بنحو 1.3 تريليون دولار، بحسب بيانات وكالة "بلومبيرغ".وبفضل الطفرة الأخيرة في استخدامات الذكاء الاصطناعي، انضمّت أيضا شركة "نيفيديا" المصنّعة لرقائق إلكترونيّة دقيقة تستخدم في تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي إلى نادي التريليون دولاراً وأكبر الشركات في العالم.ويؤكّد عوض الله الذي كان يشغل سابقاً منصب رئيس علاقات المطورين في "غوغل كلاود" أنّ الثورة الصناعية تسير بخطواتٍ سريعة للغاية وهي أسرع من الثورة الصناعية، "يعني الثورة الصناعيّة استغرقت 30 إلى 40 عاماً حتى تصبح هناك دول رائدة(..) إنّما ثورة الذكاء الاصطناعي ستستغرق على الأكثر ما بين 5 إلى 10 سنوات. لذا يجب على كل الدول أن تركّز على الذكاء الاصطناعي وتحاول الاستفادة منه في أسرع وقت ممكن".من جهته يعتبر رائد الأعمال ومؤسسة شركة الأمل للنظارات الذكيّة للمكفوفين محمد إسلام هاشم خلال حديثه مع منصّة "المشهد" أنّ التحولات الكبيرة في الذكاء الاصطناعي ليصبح ثورةً حقيقيّة، جاءت نتيجة استخدامه وفق الاحتياج اليومية للأشخاص العاديين.ويضيف هاشم وهو أيضا مؤسّس شركة بدولة الإمارات متخصّصة في إنتاج الروبوت الذكي لإطفاء الحرائق منذ سنوات: "الذكاء الاصطناعي ليس صناعة جديدة، بالعكس هذه التقنيّات موجودة منذ أكثر من 20 عاما داخل المختبرات والمؤسسات، لكنّها تسارعت في الأشهر الأخيرة وباتت تستخدم بما يخدم الناس من خلال دمجها في الحياة اليوميّة".هل المنطقة بعيدة؟وفي خضمّ هذا التحوّل المتسارع للذكاء الاصطناعي في دول أوروبا وأميركا الشمالية وشرق آسيا، باتت تظهر الكثير من التساؤلات حول مدى إمكانيّة إسهام شركات منطقة الشرق الأوسط في هذه الثورة، وألا تكون المستخدم الأخير للتكنولوجيّات التي ستكون أكثر ذكاءً في السنوات القريبة، إذ يرى روّاد الأعمال المتخصّصون في قطاع التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي خلال حديثهم مع منصّة "المشهد"، أنّ المنطقة لا تزال بعيدةً عن الإسهام في هذا التحوّل، على الرّغم من المحاولات الجادّة التي يقوم بها عدد محدود من البلدان.الرئيس التنفيذي لشركة "Vectara" يقول: "نعم شركات المنطقة واقتصاداتها بعيدة حتى الآن على تحوّلات الذكاء الاصطناعي الهائلة. لو نظرنا في الوقت الراهن سنجد هناك أمثلة قليلة جداً وعدداً محدوداً من الشركات التي تعمل بالذكاء الاصطناعي".ويضيف عوض الله الذي قال إنّه ضمن مجالس إدارات هذه الشركات الناشئة في المنطقة ويستثمر بها أيضا: "هناك شركة لوسيديا في السعودية تستعين بالذكاء الاصطناعي لتحليل ردود أفعال الناس وآرائهم بشأن المنتجات على تويتر ووسائل التواصل الاجتماعي الأخرى. كما في مصر هناك شركة (ROLGY) المتخصّصة في تحليل الأشعة الطبية بالذكاء الاصطناعي مثل الطبيب تماماً، وأخرى متخصص في إعداد التصنيف الائتماني للعملاء ومخاطر التخلّف عن سداد القروض عبر تحليل المعلومات بتقنيّات الذكاء الاصطناعي".ويشير عوض الله إلى أنّه على الرغم من هذه الأمثلة من الشركات الناشئة في المنطقة، "لكن نحن عموماً متأخرون طبعا"، خصوصاً أنّ التقدم في استخدامات الذكاء الاصطناعي في السيليكون فالي بولاية كاليفورنيا، وصل إلى حدّ "إبهار العقل"، "لك أن تتخيّل أن تستقلّ سيّارة يقوم بقيادتها الذكاء الاصطناعي بشكل كامل دون أيّ تدخّل بشري".لكنّ عوض الله عاد ليقول إنّ الإمارات والسعودية قطعتا أشواطاً كبيرة نحو التحوّل في استخدامات الذكاء الاصطناعي وهما الدولتان السبّاقتان في المنطقة، "السعودية ركّزت خلال الفترة الماضية على الاستثمار في هذا القطاع، وكذلك الإمارات التي تعتزم إطلاق (فالكون) وهو من أفضل تطبيقات الذكاء الاصطناعي الموجود حالياً وسيكون منافساً قوياً لـ(تشات جي بي تي)".الإمارات والسعوديّة الأكثر مواكبة لهذا التطوّر بحسب ما يضيف عوض الله، قائلا: "أتمنّى من دول المنطقة أن تحذو حذوهما في هذا الشأن ومن بينهم مصر".وكشف معهد الابتكار التكنولوجي في أبوظبي خلال مارس الماضي النقاب عن "فالكون" وهو نموذج لغويّ طوّر بالكامل محلياً ويتفوّق على العديد من روبوتات الدردشة وفق ما قالت رئيس وحدة الذكاء الاصطناعي بالمعهد في تصريحات سابقة ابتسام المزروعي، حيث أشارت إلى أنّه يهدف إلى تعزيز قدرات الشركات الحكومية والخاصة، مما يضع الإمارات في سباق تحدّي الذكاء الاصطناعي.ويتّفق مع ذلك محمد إسلام هاشم والذي يقول خلال حديثه: "أول الحكومات التي اهتمت بالذكاء الاصطناعي هي حكومة الإمارات بدليل استحداث منصب جديد لأول مرة بالعالم وهو وزير الذكاء الاصطناعي. ومع توفير البيئة المناسبة بدأت شركات تكنولوجيا كبرى تنقل مقرّاتها إلى الإمارات والسعودية للاستفادة من البنية التحتيّة الجيّدة والتسهيلات".إلا أنّ هاشم يعتبر منافسة اقتصادات وشركات المنطقة مع الشركات العالمية في مجال الذكاء الاصطناعي ستكون أكثر صعوبةً في الوقت الراهن، ناصحاً بالبدء من حيث ما وصلوا إليه، إذ يقول: "أعتقد من الصعب التنافس مع كبرى الشركات العالمية. تلك الشركات بدأت في تطوير الذكاء الاصطناعي منذ سنوات عدّة وأصبح لديها خبرة تراكمية كبيرة مكّنتهم من الوصول للإنجازات الحاليّة. الأفضل لنا البدء من حيث انتهى الآخرون ومن ثم البناء عليه وتطوير بشكل أفضل".منصّات عربية مجانيةوبالتوازي مع فورة الذكاء الاصطناعي الأخيرة، انتشرت تطبيقات عربية عدّة على الإنترنت خلال الأشهر الماضية تروج على أنّها تستخدم الذكاء الاصطناعي، لكن في الحقيقة هذه التطبيقات لا تقدم ما هو جديد إذ تتيح نفس ما يقوم به تطبيق "تشات جي بي تي"، الذي أصبح الأسرع نموّا في التاريخ خلال أقلّ من شهرين، من حيث كتابة المقالات والمواضيع الإنشائية، وأيضا تخليق الصور بحسب النص والذي تنتجه تطبيقات أخرى منذ أشهر عدة.ومن بين هذه التطبيقات العربية تطبيق "فهيم" الذي يصف نفسه على أنّه أوّل تطبيق في العالم بالذكاء الاصطناعي باللغة العربية ويمكن استخدامه عبر "واتساب"، والأمر ذاته مع موقع "عربي إيه أي" والذي يقول في صندوق الوصف عبر حساب "توتير" الذي يتابعه فيه 760 مستخدماً تقريباً إنّه صانع محتوى ذكيّ عربي.الباحث الكويتي المتخصص في التكنولوجيا والأمن السيبراني محمد الرشيدي يقول لمنصة "المشهد" إنّ هناك الكثير من المواقع والتطبيقات التي قام مطوِّرون مجهولون بإنشائها الأشهر القليلة الماضية، لكنّها في الأساس تعتمد على التقنيات البرمجية التي وفّرتها شركة "أوبن إيه أي" المالكة لـ"تشات جي بي تي".ويضيف الرشيدي: "أتيح للمطوّرين مؤخراً واجهة برمجة التطبيقات (API) من (تشات جي بي تي) والتي تتيح للمطورين دمج تقنيّة الذكاء الاصطناعي التي يوفّرها مع تطبيقاتهم ومنصّاتهم المختلفة. لهذا أغلب المواقع المجانيّة المنتشرة حالياً تستخدم (API) من الشركة الأميركيّة ذاتها، والمنافس الوحيد حالياً هو تطبيق (بارد) من غوغل".وحاولت منصة "المشهد" التواصل مع مسؤولين عن تطبيق "فهيم" وموقع "عربي إيه أي" لفهم نموذج الذكاء الاصطناعي المستخدم عبر تطبيقاتهم، إلا أنه تعذر ذلك. للمزيد-أفضل مواقع الذكاء الاصطناعي 2023(المشهد)