خلال عام 2022، بسط الدولار الأميركي سطوته على العالم، مرتفعا لأعلى مستوى في عقود، ليخلف وراءه خسائر وأزمات اقتصادية تلاحق بلدانا عدة من بينها دول عربية. وكان العام الماضي بالنسبة للعملة الأميركية "عاما تاريخيا" بحسب وصف تقرير صادر عن بنك "جي بي مورغان" لأداء الدولار مقابل سلة العملات الرئيسة الأخرى، قائلا: "الدولار وصل تقريبا إلى مستويات لم يشهدها منذ عقود، حيث رفع الاحتياطي الفيدرالي الأميركي أسعار الفائدة بقوة في محاولة لمكافحة التضخم". وتسارعت معدلات التضخم العالمية خلال الأشهر الـ 12 الماضية، بفعل ما خلفته أزمة الحرب الروسية الأوكرانية، من تأثيرات على إمدادات الطاقة بأوروبا وسلاسل إمداد السلع الغذائية على مستوى العالم، والتي كانت بالكاد تتعافى من تأثيرات الوباء، ليصل متوسط التضخم العالمي وفق تقديرات صندوق النقد الدولي في نهاية 2022 إلى 8.8% مرتفعا من مستوى 4.7%. وعلى الرغم من إبقائه سعر الفائدة في يناير من العام الماضي دون تغيير عند مستوى يقترب من صفر بالمئة، بدأ المركزي الأميركي في رفع السعر بمعدلات متسارعة عقب اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، لتختتم الفائدة العامة متراوحة بين 4.25% و4.5%. فيما قفز مؤشر الدولار، مقابل سلة العملات المستخدمة على نطاق واسع في التجارة الدولية، بأكثر من 12%. تراجع عملات عربية وما بين قوة الدولار وارتفاع معدلات التضخم إلى مستويات غير مسبوقة، كافحت عملات عدد من الدول العربية غير المصدرة للنفط، في سبيل الصمود بمواجهة الأزمة العالمية. لكن هذا لم يمنع من فقدانها الكثير من قيمتها أمام الدولار خلال عام تقريبا في السوق الرسمية. ووفق بيانات أسعار الصرف المنشورة عبر المواقع الإلكترونية للبنوك المركزية، فإن الجنيه المصري تراجع أمام الدولار بنسبة 48.6% منذ فبراير 2022 وحتى فبراير الجاري، فيما تراجعت الليرة اللبنانية في السوق الرسمي بنسبة تصل إلى 90%، والليرة السورية بنسبة 45%، بينما كان الدرهم المغربي أقل عملة تراجعت قيمتها ما بين العملات الأربعة بنسبة 8.4% فقط منذ فبراير من العام الماضي. محللون وخبراء أرجعوا خلال حديثهم مع منصة "المشهد"، تراجع قيم العملات العربية خلال العام الماضي نتيجة المتغيرات التي فرضتها الأزمة الجيوسياسية في شرق أوروبا، وذلك إلى جانب المشكلات السياسية والتحديات الداخلية التي تعاني منها اقتصادات هذه الدول والتي على رأسها لبنان وسوريا. الجنيه المصري بحسب بيانات البنك المركزي المصري، ارتفع سعر صرف الدولار أمام الجنيه بنسبة تصل إلى 95% منذ فبراير من العام الماضي، حيث سجلت العملة الأميركية في ختام تعاملات الخميس الماضي 30.68 جنيها للدولار الواحد مقابل 15.77 جنيها للدولار قبيل الحرب الروسية الأوكرانية. المحلل الاقتصادي والمدير التنفيذي لشركة "VI Markets" في مصر أحمد معطي، يقول في حديثه مع منصة "المشهد": "مع بداية الأزمة الروسية الأوكرانية، أخذت مصادر مصر من العملات الأجنبية تتراجع، نتيجة تأثر قطاع السياحة المصري بشكل سلبي، حيث يُشكل الروس والأوكرانيون النسبة الأكبر من الوافدين الأجانب". وتُعتبر مصر من الواجهات السياحية المفضلة لدى أغلب السياح الروس والأوكرانيين، إذ يشكل الوافدون من البلدين ما نسبته 40% من حجم السياحة الشاطئية القادمة إلى مصر، حسبما قال رئيس لجنة تسيير أعمال غرفة المنشآت الفندقية علاء عاقل، في تصريحات نقلتها صحف محلية. ويضيف معطي: "استمرار الأزمة لفترة طويلة كان له الأثر الأكبر، خصوصا أن مصر دولة مستوردة صافية، ولديها عجز في ميزان المدفوعات كبير. وبالتالي استمرار الأزمة زاد من حدة الضغوط في الوقت الذي كانت تكافح فيه الحكومة المصرية لتأمين الأمن الغذائي من القمح والحبوب بأسعار مرتفعة بعد تعطل سلاسل الإمداد من روسيا وأوكرانيا". وتابع بالقول: "استمرار الأزمة من الطبيعي يخلق سوقا موازية للدولار ويتسبب في ضغط على مصدر رئيسي آخر للعملات الأجنبية، وهو تحويلات المصريين العاملين بالخارج". وكان أول ارتفاع في سعر الدولار أمام الجنيه المصري بعد استقرار دام لأكثر من عام ونصف فوق مستوى 15 جنيها، في 21 مارس 2022، حينما تجاوزت العملة الخضراء مستوى 18 جنيها للدولار الواحد. ومنذ أكتوبر الماضي، أعلن البنك المركزي المصري تبني سعر صرف مرن، يحدد وفق آليات العرض والطلب بالسوق، وذلك قبل شهرين من موافقة صندوق النقد الدولي على برنامج إصلاح اقتصادي جديد مع مصر مدته 46 شهرا، تحصل بموجبه على 3 مليارات دولار، كما يؤمن للحكومة المصرية الحصول على تمويل إضافي بقيمة 14 مليار دولار من الشركاء الدوليين والإقليميين. ويرى المحلل الاقتصادي المصري، أن مصادر العملات الأجنبية بالنسبة لمصر شهدت تحسنا خلال الشهرين الماضيين مقارنة بالأشهر الأخيرة من العام الماضي، ما عزز استقرار أسعار الصرف بشكل كبير خلال الأسابيع الماضية، مؤكدا أن أسعار الصرف ستواصل الحركة في الاتجاهين الصاعد والهابط لكن في نطاق محدود وبنحو "بضعة قروش" خلال الفترة المقبلة لحين الوصول إلى مستوى توازن. الدرهم المغربي سجل سعر صرف الدولار أمام الدرهم المغربي يوم الخميس الماضي نحو 10.40 دراهم للدولار الواحد، بحسب بيانات بنك المغرب، مرتفعا من مستوى 9.52 دراهم في فبراير من العام الماضي، بزيادة نسبتها 9.19% وهي الأقل ما بين عملات الدول العربية الأربعة، التي نتناولها في التقرير. واعتبر الخبير الاقتصادي المغربي الدكتور عمر الكتاني في حديثه مع منصة "المشهد"، أن الارتفاع الطفيف في سعر الدولار مقابل الدرهم يرجع إلى صلابة الاقتصاد المغربي وتنوعه، فضلا عن "سياسة البنك المركزي المتأنية فيما يتعلق بتحرير سعر الصرف تدريجيا، بما يخالف توصيات صندوق النقد الدولي المتكررة بشأن تحرير سعر الصرف المحلي بشكل كامل أمام العملات الأجنبية". ومنذ سنوات يوصي صندوق النقد الدولي المغرب، بتسريع تحرير سعر صرف الدرهم مقابل العملات الأجنبية، وسط رفض من مسؤولي البنك المركزي، سياسة التحرير الكامل، حيث قال محافظ البنك المركزي عبد اللطيف الجواهري في تصريحات له مارس العام الماضي، إن المملكة "لن ترضخ" لمطالب صندوق النقد الدولي بتنفيذ مرحلة جديدة من تعويم سعر صرف العملة المحلية. ومنذ عام 2018، يطبق المغرب نظاما إصلاحيا لسعر الصرف، حيث يسمح له بالتراجع مقابل الدولار واليورو، فوفق بيان صادر في مارس من عام 2020، قررت وزارة الاقتصاد والمالية وإصلاح الإدارة، بعد التشاور مع بنك المغرب، توسيع نطاق تقلب سعر صرف الدرهم من (±2.5%) إلى (±5%). ويقول الكتاني: "البنك المركزي يرفض سياسات صندوق النقد والتي تعتبر وصاية على بلدان العالم وتؤدي إلى انهيار عملاتها (..) المغرب يتبنى سياسة تحرير سعر صرف تدريجية وسيواصل في ذلك خلال السنوات المقبلة"، مستبعدا أن يقدم بنك المغرب على أي خطوة لتعويم الدرهم بشكل في أي مرحلة مستقبلية، "وأن كل ما سيفعله هو توسيع نطاق تقلب سعر الصرف إلى (±10%)". الليرة السورية خلال العام الماضي، تمسك مصرف سوريا المركزي بقوة الليرة، حيث ارتفع الدولار منذ فبراير وحتى ديسمبر بحوالي 500 ليرة فقط، إلى مستوى 3000 ليرة للدولار الواحد، وذلك قبيل تخفيضها بقيمة كبير في مطلع العام الجاري إلى مستوى 4500 ليرة للدولار. بينما في سوق صرف الحوالات والصرافة، خفضت مصرف سوريا قيمة الليرة إلى مستوى 7000 ليرة للدولار حتى فبراير الجاري، من مستوى 2512 ليرة في فبراير 2022. يرى المحلل الاقتصادي السوري شادي أحمد خلال حديثه مع منصة "المشهد"، أنه على الرغم من التباينات والاختلافات الموجودة بين اقتصادات عربية عدة والاقتصاد السوري، إلا أن هناك قاسما مشتركا خلال الفترة الماضية تمثل في الانخفاض المستمر في قيمتها أمام الدولار. وأضاف: "لكن بالنسبة لليرة السورية بدأت الأزمة منذ ما يسمى بالربيع العربي، واستمرت حتى الآن، حيث كان هناك تحركات تدريجية لليرة من حين إلى آخر، بينما كان المسار العام هو تراجع (..) حتى قرر المصرف المركزي منذ ما يقرب من شهرين رفع سعر صرف الدولار أمام الليرة بنسبة كبيرة، بهدف زيادة التحويلات الدولارية من الخارج في الاقتصاد الرسمي". وتابع أحمد بالقول: "لكن ذلك لم يؤد إلى نتائج مباشرة وحقيقية، خصوصا مع ظهور السوق الموازية (..) وهذا دفع البنك إلى إصدار قرار للتعامل مع ما أسماه سعر التداول وفق نشرة يومية"، معتبرا هذا القرار تحريرا لسعر صرف الليرة أمام العملات. وأكد المحلل الاقتصادي السوري أن العملات المحلية تأثرت بشكل أساسي بالأزمة الروسية الأوكرانية، وكان لها آثار واضحة على الاقتصاد، مشيرا إلى أن سوريا كانت تتمتع بعلاقات اقتصادية وسياسية واسعة مع روسيا منذ أكثر من 10 سنوات. وحول مستقبل سعر صرف الليرة، ذكر أحمد: "لا يمكن أن تكون الليرة السورية قوية وقادرة على القيام بأدوارها ومهامها بموجب السياسة النقدية المتبعة بمصرف سوريا المركزي (..) يجب أن تستعيد قوتها الاستثمارية والادخارية، باعتبارها مقياسا للقيمة، وذلك مثل ما كان قبل سنوات من الأزمة السورية". الليرة اللبنانية بينما يبلغ سعر صرف الدولار أمام الليرة اللبنانية في السوق الرسمي 15 ألف ليرة للدولار الواحد ونحو 45 ألف ليرة للدولار الواحد عبر منصة صيرفة ما بين المصارف، تجاوز الدولار في السوق الموازية نحو 80 ألف ليرة، بحسب ما قاله المحلل الاقتصادي اللبناني باسل خطيب، في حديثه مع منصة "المشهد". وقال الخطيب: "لا علاقة بتراجع الليرة اللبنانية بأزمة الحرب الروسية الأوكرانية (..) الليرة بدأت في التدهور منذ أكتوبر 2019 مع اندلاع الثورة بالبلاد وفاقمت الأزمة المالية والنقدية مع إغلاق المصارف وفرض قيود على الدولار الأميركي، ما دفع الأسعار في السوق الموازية للارتفاع إلى مستويات قياسية". وأضاف: "المؤشرات كلها تدل على أن الليرة ستتراجع أكثر وأكثر (..) الثقة في الاقتصاد اللبناني تراجعت منذ امتناع البنوك اللبنانية والحكومة عن دفع مستحقات السندات اليورو (..) هذا أثر بشكل سلبي على التعامل مع الهيئات الدولية والمجتمع الدولي وخصوصا صندوق النقد الدولي". واعتبر الخطيب أن عدم تنفيذ الحكومة اللبنانية الإصلاحات المتفق عليها مع صندوق النقد الدولي بشكل إصلاح القطاعات الاقتصادية وتنظيم القطاع المالي، دفع الليرة إلى المزيد من التدهور، وسط سيطرة "أشخاص على السوق السوداء". وتوصل صندوق النقد الدولي في أبريل 2022 إلى اتفاق مبدئي مع لبنان على مستوى الموظفين بشأن برنامج إصلاح اقتصادي تحصل بموجبه على تمويل بنحو 3 مليارات دولار، لكن حتى اللحظة لم يمض المجلس التنفيذي للصندوق قدما في هذا الاتفاق، حيث ذكرت مديرة الصندوق كريستالينا غورغيفا خلال مؤتمر صحفي أكتوبر الماضي، أن "الإجراءات المتفق عليها مع لبنان وتعود بالنفع على اللبنانيين لم تتحقق بعد". وفشل البرلمان اللبناني مرات عدة في انتخاب رئيس جمهورية جديد خلفا للرئيس السابق ميشال عون الذي ترك السلطة منذ أكتوبر الماضي، بسبب عدم توافق الأحزاب السياسية. "اللبنانيين فقدوا الثقة بالليرة. هناك خلافات سياسية، ولا يوجد أي خطة للتعافي المالي أو الاقتصادي، أو خطط إنقاذ. كما ليس هناك اتفاق مع صندوق النقد الدولي، اللي بدوره قد يمنح لبنان الثقة من جديد. لابد من أن تعود الثقة إلى لبنان عبر صندوق النقد الدولي، وإصلاحات ستكون صعبة، لكن ليس هناك أي بديل"، بحسب ما يقول الخطيب. وتابع بالقول: "المطلوب هنا أن يتم انتخاب رئيس جمهورية وحكومة تضع خطة إنقاذ وتعاف بالتعاون مع صندوق النقد الدولي لاستعادة ثقة المستثمرين الأجانب، وتعيد الدولة تنظيم القطاع المالي والمصارف بعدما اهتزت الثقة بهما". (المشهد)