واصل البنك المركزي المصري سياسته النقدية المتشددة في إطار جهوده للسيطرة على التضخم الجامح الذي يضرب الاقتصاد منذ أكثر من عامين، إذ قرر رفع أسعار الفائدة الرئيسية على الجنيه إلى أعلى مستوى خلال 20 عاما، واضعا في الاعتبار توازنات المخاطر المحيطة بأسعار السلع محليا وعالميا. وقررت لجنة السياسة النقدية بالبنك المركزي المصري خلال اجتماع أغسطس الجاري، رفع سعر الفائدة الرئيسي بواقع 100 نقطة أساس، ليصل إلى 19.25% على الإيداع و20.25% على الإقراض. وبحسب البيانات التاريخية للبنك المركزي، تُعتبر أسعار الفائدة الحالية في مصر الأعلى على الإطلاق خلال 20 عاما، حيث تجاوزت أعلى مستوى بلغته في يوليو 2017 عند 18.75% للإيداع و19.75% للإقراض، والتي تلت الشهور الأولى من شروع الحكومة في برنامج إصلاح اقتصادي ضخم قبل نهاية 2016. تفادي الضغوط في بيانه الصادر في أعقاب القرار، قال المركزي المصري، إنّ رفع الفائدة جاء لتفادي الضغوط التضخمية والسيطرة على توقعات التضخم، مشيرا إلى أنه من المتوقع أن تصل معدلات التضخم في مصر إلى ذروتها خلال النصف الثاني من عام 2023، قبل أن تعاود الانخفاض نحو المستهدف. ولا يعتبر الخبراء والمحللون الذين تحدثوا مع منصة "المشهد"، رفع الفائدة بالخطوة "المفاجئة" على عكس التوقعات، إذ يؤكدون أنّ البنك المركزي المصري يضع في اعتباره بشكل رئيس توقعات التضخم المستقبلية، والتي تشير إلى استمرار الارتفاعات بالتزامن مع اتخاذ الحكومة إجراءات للضبط مالي، وتخفيض متوقع لسعر صرف الجنيه أمام الدولار. كبيرة المحللين الاقتصاديين لدى بنك الاستثمار المصري "برايم" منى بدير، تقول خلال حديثها مع منصة "المشهد": "كانت تقديراتنا لا تستبعد على الإطلاق فكرة أن يلجأ البنك المركزي لرفع أسعار الفائدة من جديد خلال أغسطس، لكن رأينا أنّ الرفع سيكون له دلالات على قرب أحداث مهمة نحن في انتظارها". ويتفق مع هذا الخبير الاقتصادي والمحاضر بالجامعة الأميركية بالقاهرة هاني جنينة، والذي يعتبر أنّ "المعطيات الاقتصادية العالمية والمحلية، كانت تشير إلى رفع للفائدة حتى بنسبة أعلى مما قام بها البنك المركزي، حيث أسعار النفط تعاود الصعود، وتزايد الضغوط على أسعار الغذاء بعد انسحاب روسيا من اتفاقية الحبوب، وتلميحات بزيادة جديدة في أسعار الفائدة الأميركية". ويضيف جنينة الذي وصف القرار خلال حديثه مع منصة "المشهد"، بـ"خطوة في الاتجاه الصحيح": "ليس هناك أيّ بيانات تشير إلى أنّ المركزي المصري كان من المفترض أن يبقي أسعار الفائدة من دون تغيير. هناك تضخم قادم سواء المرتبط بالعودة إلى سعر الصرف المرن، أو إلى الإجراءات الحكومية المختلفة". ومن بين الإجراءات المتوقعة في إطار الضبط المالي، يأتي رفع أسعار بعض السلع والخدمات المحددة إداريا، مثل الكهرباء والمحروقات، بحسب ما تقول كبيرة المحللين الاقتصاديين لدى "برايم"، والتي تضيف أنّ ذلك يأتي "جنبا إلى جنب مع خطوات سيتخذها البنك المركزي لمعالجة أو احتواء أزمة شحّ السيولة الأجنبية، والتي يترتب عليها قرب خفض قيمة الجنيه مرة أخرى". وخلال العام الماضي أرجأت الحكومة المصرية زيادة أسعار الكهرباء في إطار خطتها لخفض دعم الطاقة إلى مطلع يوليو الجاري، إلا أنها لم تتخذ أيّ قرار بشأن تلك الخطة حتى اللحظة. فيما من المقرر أن تعلن وزارة البترول المصرية الأسعار الجديد للمحروقات خلال أيام، والتي تقوم بمراجعتها بشكل دوري كل 3 أشهر، استنادا إلى الأسعار العالمية للنفط وبعض المعايير الاقتصادية الأخرى. تخفيض محتمل للجنيهتعتبر منى بدير أنّ "مشكلة نقص السيولة الأجنبية السبب الرئيس وراء ارتفاع معدلات التضخم المحلية، لذا يجب أن يكون هناك رغبة في السيطرة عليها، لأنّ خلاف ذلك يعني استمرار التضخم". ورغم إجراءات عدة اتخذتها الحكومة في سبيل السيطرة على الأزمة، تعاني مصر نقصا حادًّا في السيولة بالعملة الأجنبية منذ أكثر من 3 أعوام، حيث لجأت إلى تخفيض قيمة الجنيه المصري أمام الدولار، إلى مستويات غير مسبوقة في إطار إصلاحات تم الاتفاق عليها مع صندوق النقد الدولي. وفقدت العملة المحلية في مصر نحو 50% من قيمتها خلال الأعوام الماضية، إذ بلغ سعر صرف الدولار أمام الجنيه في نهاية الأسبوع الماضي 30.9 جنيه للدولار الواحد، وذلك مقابل 16.6 جنيه في أغسطس من عام 2019. ويعتقد المحلل الاقتصادي والمدير التنفيذي لشركة "VI Markets" أحمد معطي، أنّ "قرار رفع الفائدة الأخير يشير بشكل كبير إلى احتمالية عودة البنك المركزي إلى تبنّي سعر الصرف مرن"، وهو الأمر الذي ينادي به صندوق النقد الدولي. لكنه عاد ليقول: "هذا احتمال ضعيف ومن الممكن ألا يحدث". وقبيل أن يوافق صندوق النقد الدولي في ديسمبر الماضي على برنامج إصلاح اقتصادي جديد مع مصر، تحصل بموجبه على 3 مليارات دولار ويؤمّن الحصول على تمويل إضافي بقيمة 14 مليار دولار من الشركاء الدوليين والإقليميين، أعلن المركزي المصري تبني سياسة مرنة لسعر الصرف، وسمح بارتفاع الدولار إلى ما يتجاوز 30 جنيها، قبل أن يتراجع عن هذا الإجراء خلال 2023 مع تفاقم الضغوط التضخمية في البلاد. وخلال الشهر الماضي اعتبر الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي تثبيت سعر صرف الدولار أمام الجنيه، مسألة "أمن قومي"، قائلا في كلمة له خلال مؤتمر للشباب بالإسكندرية: "تحرير سعر صرف الجنيه أمام الدولار إذا كان يؤثر على المصريين، لن يتم اتخاذه. حتى إذ تعارض مع مطالب صندوق النقد". وتقترب مصر من إجراء المراجعة الأولى مع صندوق النقد الدولي لبرنامج الإصلاح الاقتصادي المتفق عليه العام الماضي، وفق ما هو متوقع. لهذا تقول المحللة الاقتصادية منى بدير: "يشير ذلك إلى قرب اختراق ملفات مهمة لتوفير بعض السيولة الأجنبية". وتتصاعد التكهنات بخفض جديدة في قيمة الجنيه خلال سبتمبر المقبل، حسبما ذكرت مذكرة بحثية صدرت الجمعة عن مؤسسة "كابيتال إيكونوميكس" للأبحاث، إذ تقول: "سيحتاج البنك المركزي المصري إلى التحرك من أجل كبح أزمة سيولة العملات الأجنبية. ومن المحتمل أن يتم اللجوء إلى تخفيض آخر لقيمة العملة". وتتوقع المؤسسة البحثية التي تتخذ من لندن مقرا لها، أن تخفّض مصر قيمة الجنيه بنسبة 12% ليصل سعر صرف الدولار 35 جنيها للدولار الواحد بنهاية 2023، مشيرة إلى أنّ ذلك "يساعد مصر على جذب المزيد من تدفقات رأس المال الأجنبي، وإلغاء تجميد الاتفاق مع صندوق النقد الدولي". ما التوقعات؟ من خلال البيان الصادر عن لجنة السياسة النقدية هذا الشهر، أكد البنك المركزي أنّ مسار أسعار الفائدة الرئيسي يعتمد على معدلات التضخم المتوقعة، وليس معدلات التضخم السائدة، مشيرا إلى أنه سيواصل متابعة التطورات والتوقعات الاقتصادية خلال المرحلة المقبلة، "ولن يتردد في استخدام جميع أدوات السياسة النقدية المتاحة، بهدف الحفاظ على الأوضاع التقييدية لتحقيق معدلات التضخم المستهدفة. وخلال يونيو الماضي سجل المعدل السنوي للتضخم العام في مدن مصر أعلى مستوى له تاريخيا عند 35.7%، فيما يستهدف البنك المركزي المصري الوصول بمعدلات التضخم إلى 7% (±2%) في المتوسط بنهاية 2024، و5% (±2%) خلال الربع الرابع من عام 2026. واتفق المحللون والخبراء خلال حديثهم على أنّ التضخم في مصر سيواصل الارتفاع خلال الأشهر القليلة المتبقية من عام 2023، ما قد يدفع المركزي إلى زيادة جديدة في سعر الفائدة الرئيسي، حيث يقول الخبير الاقتصادي هاني جنينة، إنّ "البنك المركزي لن يدع التضخم ينفلت وسيحاول تقييد النمو في السيولة المحلية للسيطرة على ذلك". ويضيف جنينة: "البنك المركزي يقوم بإجراءات في الاتجاه الصحيح لتقييد السيولة، وجعل تكلفة الاقتراض أعلى خاصة بالنسبة للمستهلكين وأيضا المنتجين، من أجل الوصول إلى مستهدفات التضخم العام المقبل"، مشيرا إلى أنّ "المركزي المصري يسعى للاحتفاظ بالمزيد من مصداقيته في ما يتعلق بأهداف التضخم". ويتوقع جنينة الذي شغل في السابق أيضا منصب وكيل محافظ البنك المركزي في مصر، أنّ تواصل السلطات تشديد السياسة النقدية عبر رفع الفائدة مجددا، بنسبة تتراوح بين 1و2% قبل نهاية العام الجاري، "وهذه ستكون الزيادة الأخيرة في دورة التشدد النقدي". ولا يستبعد الخبير الاقتصادي أن تطرح بنوك محلية شهادة ادّخار بفائدة قياسية على غرار ما حدث خلال فترات سابقة، بهدف جذب المزيد من السيولة، قائلا: "الشهادات ستكون لمدة عام واحد، لأننا في نهاية دورة التشدد، ووفق المعطيات العالمية سوف نرى خلال عام 2024 تراجع أسعار الفائدة بالتزامن مع انخفاض التضخم". بدورها تعتقد كبيرة المحللين الاقتصاديين لدى بنك الاستثمار "برايم" منى بدير، أنّ تنفيذ الحكومة لإجراءات الضبط المالي وتخفيض الجنيه مجددا، يدعمان رفع سعر الفائدة مرة أخيرة قبل نهاية عام 2023، خصوصا أنّ "التضخم من المتوقع أن يصل إلى ذروته في أكتوبر المقبل، مدعوما بهذه الإجراءات والعوامل الموسمية التي ستواصل تغذيته". في غضون ذلك، كرر المحلل الاقتصادي أحمد معطي توقعات البنك المركزي المصري حول تراجع التضخم عقب الوصول إلى ذروته خلال العام الجاري، مشيرا إلى أنّ هذه "التوقعات قد تشير إلى رفع سعر الفائدة الرئيسي بنسبة أقل من اجتماع أغسطس قبل نهاية العام".ومنذ بداية العام الجاري، رفع البنك المركزي المصري سعر الفائدة الرئيسي بنحو 300 نقطة أساس، فيما كانت الزيادة خلال عام العام الماضي ككل نحو 800 نقطة أساس، إذ اختُتم عام 2022 عند 16.25% للإيداع و17.25% للإقراض.(المشهد)