ألقت الأزمات الاقتصادية الدولية المتلاحقة بظلالها على الشعوب التي باتت تكافح ارتفاع الأسعار وسط تضخم جامح يغزو الأسواق منذ أكثر من 3 أعوام، وذلك بفعل تداعيات جائحة فيروس كورونا والتأثيرات غير المؤاتية للحرب القائمة في شرق أوروبا على سلاسل إمداد الغذاء والطاقة. وأبدى تقرير المخاطر العالمية 2023، الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي هذا الأسبوع، نظرة أكثر تشاؤما، إذ أشار إلى المزيد من الناس سيصابون بالجوع وسيفقدون سبل العيش، وستكون هناك ارتفاعات في الأسعار على مستوى العالم، داعيا إلى اتخاذ إجراءات جريئة لوضع حلول شاملة لتغير المناخ والأمن الغذائي معا. ولم تكن أغلب البلدان العربية، غير المصدرة للنفط، بمعزل عن الأزمات السابقة أو اللاحقة، والتي ألقت بثقلها على كاهل المواطنين، حيث ارتفعت الأسعار إلى مستويات غير مسبوقة، وتراجعت القوة الشرائية للعملات المحلية أمام الدولار الأميركي. المحللون والخبراء الاقتصاديون الذين تحدثوا لمنصة "المشهد" أشاروا مجتمعين إلى أن الأزمة الصحية منذ 2019 والحرب الروسية الأوكرانية هما أبرز الأسباب رئيسية في تفاقم الأسعار وارتفاع معدلات التضخم. لكن الخبير الاقتصادي المصري وائل النحاس، ذهب إلى أبعد من ذلك، إذ قال "ملامح ما تعاني منه الأسواق حاليا تكشفت قبل هذه الأزمات بسنوات، خصوصا مع عدم سعي الحكومات لترسيخ قطاعات مثل الصناعة والزراعة في الاقتصاد وتقليل الاعتماد على الواردات السلعية، حيث إن بلدان المنطقة لم تكن جاهزة للتعامل مع مثل هذه التحديات مما زاد من وطأتها". واتفق أستاذ الاقتصاد في الجامعة التونسية الدكتور رضا الشكندالي، مع ما قاله النحاس، ليشير إلى أن "التضخم في بعض الأسواق العربية يرتفع بمعدلات أعلى من الأسواق الغربية، وهذا دليل على أن نقص الإنتاج وضعف الاستثمار أحد مصادر هذا التضخم". وبحسب تقرير "التطورات الاقتصادية والاجتماعية في المنطقة العربية"، الصادر مؤخرا عن لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا "الإسكوا"، فإن ثلث سكان المنطقة العربية وقعوا تحت خط الفقر عام 2022. وتضمن التقرير: "باستثناء دول مجلس التعاون الخليجي وليبيا، ارتفعت مستويات الفقر خلال عام 2022 بالمنطقة مقارنة بالسنوات الماضية ليصل عدد الفقراء إلى ما يقرب من 130 مليون شخص، أي بنسبة 35.3% من سكان المنطقة". "تضخم حلزوني" ووصف النحاس ارتفاع الأسعار في مصر بـ"التضخم الحلزوني"، قائلا: "أسعار السلع في السوق ترتفع ولا تتراجع، هذه الارتفاعات غير مبررة". وأظهرت بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في مصر مؤخرا، زيادة معدل التضخم العام على أساس سنوي إلى أعلى مستوى في 5 سنوات ليسجل 21.3% خلال ديسمبر الماضي. وأضاف النحاس: "انخفاض قيمة الجنيه أمام الدولار خلال الأشهر الماضية، ساهم في زيادة الأعباء مع تسارع تراجع القوة الشرائية". في السياق نفسه، أشار البنك الدولي في تقرير "الآفاق الاقتصادية العالمية" الصادر في يناير الجاري، إلى أن معدل التضخم في أسعار المستهلكين على أساس سنوي، ارتفع بشكل كبير ليصل إلى معدلات ثنائية الرقم في العديد من البلدان التي عانت انخفاضا كبيرا في أسعار الصرف، وواجهت ارتفاعا في أسعار المواد الغذائية والطاقة بمنطقة الشرق الأوسط. ومنذ مارس 2022، فقد الجنيه المصري نحو 47% من قيمته، إذ سجل الدولار الأميركي حتى يوم 12 يناير الجاري نحو 29.52 جنيه للدولار الواحد مقابل 15.66 جنيه في 20 مارس 2022، وفقا لبيانات رسمية من البنك المركزي المصري. وعن الحلول لتخفيف من وطأة هذه الأزمة في مصر، اعتبر النحاس أن أي إجراءات، بعيدة عن السعي نحو بناء الثقة بين أطراف السوق "الحكومة، المستوردين، التجار، والمستهلكين" لن تكون مجدية. وقال: "عودة الثقة، لا بد من أن يكون هناك جسر ثقة بين الحكومة من جانب، والمستوردين والمستهلكين من جانب آخر، (..) هذه الثقة هي من تضمن للمستوردين سرعة الإفراج عن سلعهم، بما يساعدهم يزيد من دورة رأس المال ولا يدفعهم لزيادة الأسعار بشكل كبير، وهي أيضا التي تطمئن المواطنين ولا تدفعهم لشراء السلع بشراهة خوف من عدم توفرها في المستقبل". والشهر الماضي، ألغى البنك المركزي في مصر شرط تقديم اعتماد مستندية للمستوردين، في إطار خططه لتخفيف شروط الاستيراد المطبقة، حيث كان يطلب في السابق من المستوردين تقديم تلك المستندات والانتظار حتى يتم تدبير العملة الأجنبية اللازمة لإتمام عملية الاستيراد، مع إعطاء الأولوية للسلع الرئيسية والأساسية. طبقة جديدة في لبنانالوضع في لبنان مشابه من حيث التضخم في مصر، لكنه غير مشابه فيما يتعلق بجموحه، حيث يُعتبر لبنان من البلدان المعدودة التي تمتلك معدلات تضخم تتجاوز 100%. فبحسب إدارة الإحصاء المركزي التابعة لمجلس الوزراء، ارتفع معدل التضخم بنسبة 142.37% على أساس سنوي في نوفمبر الماضي، حيث جاء الارتفاع نتيجة الزيادة الكبيرة في أسعار المواد الغذائية والمشروبات. ويقول المحلل الاقتصادي اللبناني باسل خطيب في حديثه لمنصة "المشهد": "بدأت الأزمة في لبنان قبل أكثر من عامين، وتحديدا عقب ثورة 17 تشرين، وما تبعها من نقص حاد في الدولار وزيادة سعره في السوق الموازي، كل ذلك جاء التزامن مع أزمة جائحة كورونا، ولتأتي بعد ذلك الحرب الروسية الأوكرانية لتزيد من الضغوط". وأضاف خطيب: "هناك تزايد كبير في أسعار السلع والخدمات حتى ظهرت طبقة اجتماعية جديدة يطلق عليها الفقراء الجدد". وكان سعر صرف الليرة مقابل الدولار في يناير 2020 حينما تم إطلاق نظام تسعير موحد من قبل مصرف لبنان المركزي نحو 1507.5 ليرة للدولار الواحدة، فيما وصل السعر حاليا نحو 48 ألف ليرة في السوق الرسمي بعد مرور نحو 3 سنوات. وذكر خطيب أن لبنان دولة تستورد أكثر من أنها تصدر، حيث تبلغ فاتورة الاستيراد نحو 20 مليار دولار بينما تبلغ الصادرات 3 مليارات دولار فقط. واعتبر أن غياب الشفافية والهيئات الرقابية الحكومية على الأسواق سمح للتجار بالتلاعب في الأسعار، خصوصا في ظل الانقسام السياسي الذي يعاني منها لبنان، قائلا: "ما نحتاجه في الوقت الراهن هو انتخاب رئيس جمهورية وتشكيل حكومة لتعمل جاهدة على وضع خطة اقتصادية واضحة تهدف من خلالها إلى التوصل لاتفاق مع صندوق النقد الدولي، والذي بدوره يعزز من استعادة الثقة في اقتصاد البلاد والسياسات الحكومية". وتوصل صندوق النقد الدولي في أبريل الماضي إلى اتفاق مبدئي مع لبنان على مستوى الموظفين بشأن برنامج إصلاح اقتصادي تحصل بموجبه على تمويل بنحو 3 مليارات دولار، لكن حتى اللحظة لم يمض المجلس التنفيذي للصندوق قدما في هذا الاتفاق، حيث ذكرت مديرة الصندوق كريستالينا غورغيفا مؤتمر صحفي أكتوبر الماضي، أن "الإجراءات المتفق عليها مع لبنان وتعود بالنفع على اللبنانيين لم تتحقق بعد". "يجب أن يكون لدينا التزام واضح على المستوى السياسي للعمل من أجل استقرار لبنان (..) يجب أن تُشكل حكومة انقاذ، الحكومة الحالية هي حكومة تصريف أعمال الأمور سوداوية"، هكذا أشار خطيب، الذي أكد مجددا أن لبنان يحتاج إلى سياسات إصلاحية بالتعاون مع صندوق النقد الدولي تهدف إلى استعادة الثقة في الاقتصاد. وفشل البرلمان اللبناني مرات عدة في انتخاب رئيس جمهورية جديد خلفا للرئيس السابق ميشال عون الذي ترك السلطة في أكتوبر الماضي، بسبب عدم توافق الأحزاب السياسية. أزمة عميقة في تونسمؤخرا أجّل صندوق النقد الدولي، النظر في طلب تونس الحصول على قرض جديد بنحو 1.9 مليار دولار، بسبب تأخرها في تنفيذ بعض الإجراءات المتفق عليها، وذلك في ظل تدهور القدرة الشرائية للتونسيين مع تسارع ارتفاع التضخم الذي سجل 9.8% في نوفمبر الماضي، مدفوعا بارتفاع أسعار المواد الغذائية حسبما تشير البيانات الرسمية الصادرة المعهد الوطني للإحصاء. الخبير الاقتصادي والمالي التونسي معز الجودي، قال في حديثه مع منصة "المشهد"، إن تونس تمر بأزمة عميقة على مستوى أسعار السلع الغذائية، "هناك تضخم اقترب من 10% وفق الأرقام الرسمية. لكن اعتقد أن هذه النسبة قد تصل إلى حدود 13 و14%". وتابع: "السوق يعاني من نقص بعض السلع نتيجة تراجع الإنتاج، خصوصا على مستوى الإنتاج الفلاحي والصناعي.. هذا إلى جانب تراجع الدينار التونسي مقابل الدولار من جهة، ومن جهة أخرى الأزمة العالمية المرتبطة بسلاسل الإمداد والطاقة، كل ذلك يؤثر بشكل مفروط على المستهلكين". واستبعد الخبير التونسي أن يكون لرفع أسعار الفائدة من قبل البنك المركزي مردود إيجابي في السيطرة على التضخم، مبررا ذلك بقوله: "هذا السلاح الوحيد الذي في يده، هناك غياب للتنسيق مع الحكومة ولا توجد سياسات إصلاح اقتصادي واضحة، يجب أن يتم اتخاذ إجراءات مشجعة للاستثمار والإنتاج". ويضيف الجودي: "ارتفاع نسبة الفائدة يرفع تكاليف القروض العائلية والقروض الاستهلاكية، والمواطن التونسي يعيش على القروض، كذلك المؤسسات الصغرى والمتوسطة، لذلك تُعيق زيادة الفائدة من النمو والتنمية والاستثمار، تونس تحتاج إلى برنامج إنقاذ اقتصادي". وفي آخر اجتماعات مجلس الإدارة خلال 2022، قرر البنك المركزي التونسي رفع الفائدة بنسبة 25 نقطة أساس لتصل إلى 7.25%، وقال في بيان له إن هناك مخاطر تصاعدية تحيط بالمسار التضخم المستقبلي، مؤكدا على أهمية تنسيق السياسات الاقتصادية لتجنب أي انزلاق تضخمي قد يزيد من حدة الضعف الاقتصادي والمالي". انعدام الأمن الغذائي إلى جانب مصر ولبنان وتونس، توجد العديد من البلدان العربية تُعاني من ارتفاع معدلات التضخم وتزايد أسعار السلع من بينها الأردن والمغرب الجزائر وتونس، لكن في سوريا الوضع تحول إلى انعدام في الأمن الغذائي بمستويات غير مسبوقة، بحسب البنك الدولي، الذي قال في تقريره الصادر يناير الجاري: "من المتوقع أن تشهد سوريا مزيدا من الانكماش في عام 2023، حيث يتعرض اقتصادها لصدمات متعددة، منها آثار تغير المناخ، واستمرار العنف، وحالة عدم اليقين بشأن السياسات، وتفشي الكوليرا، ونقص الوقود". وأضاف أنه نتيجة للصراع الذي تشهده سوريا، انخفضت مستويات الدخل إلى النصف فيما بين عامي 2010 و2020، في حين تعاني الأسر السورية من الفقر وانعدام الأمن الغذائي بمستويات غير مسبوقة.(المشهد)