يعاني التونسيون منذ نحو شهر نقص الخبز في الأسواق، وبات مشهد الطوابير الطويلة أمام المخابز مألوفا في شوارع تونس ومدنها، فيما أُجبرت مخابز على غلق أبوابها بسبب عدم توافر مادّة الدقيق، وفق ما أكّده صاحب فرن في وسط العاصمة، الذي قال لمنصّة "المشهد"، إنه أُجبر بسبب نقص كميات الطحين، على العمل بنظام الحصّة الواحدة، مشدّدا على أنه لم يعد قادرا على تلبية طلبات الزبائن.وفي السياق تحدّث عدد من المواطنين كانوا يقفون أمام مخبز في انتظار أن يحين دورهم لشراء عدد من الأرغفة (الباغيت الفرنسي) لمنصّة "المشهد"، عن الأزمة ومعاناتهم من أجل شراء حاجيتهم، وأوضحت سيّدة خمسينية بنبرة حائرة، أنها لم تعد تعرف ماذا تفعل للحصول على ما يلزمها من مادة الخبز، مضيفة، "نعيش معاناة يومية من أجل الحصول على الخبز". في المقابل أكّد زبون آخر تفهّمه لهذه الأزمة، قائلًا: هي أزمة عالمية وتونس ليست استثناءً وعلينا أن تتفهّم ذلك ونرشّد سلوكنا"، وتابع ملمّحا إلى أنّ الأزمات المعيشية التي تعيشها تونس "مفتعلة"، لافتا إلى أنّ "إصلاح ما أُفسد خلال السنوات الأخيرة، يتطلب الكثير من الصبر".بداية الانفراجوبلغت أزمة نقص الخبز في تونس مستوًى قياسيا، خلال الأيام القليلة الماضية، بعد أن أغلق نحو 1500 مخبز أبوابها في مناطق عدة، وفق ما أكدته الهياكل المهنية لأصحاب المخابز.لكنّ رئيس غرفة المخابز محمد بوعنان أكد لمنصّة "المشهد"، أنّ الأزمة في طريقها للحل، موضّحا أنّ جميع المخابز تحصلت على حصصها من مادة الدقيق، ولفت إلى أنّ السبب وراء تواصل شحّ مادة الخبز هو "لهفة المواطنين"، موضحا أنّ البعض صار يشتري كميات كبيرة تفوق حاجياته ليخزّنها في بيته، وفي مثل هذه الحالة من الطبيعي ألا تتمكن المخابز من تلبية حاجيات الجميع".غير أنّ أزمة شحّ الخبز قد تعود للظهور بحدّة أكبر، بداية الشهر القادم في بعض الجهات، خصوصا بعد إعلان عدد من الهياكل النقابية في بعض المحافظات الداخلية، عزمها الدخول في إضرابات احتجاجا على عدم تمكينهم من إعانات صرف الدعم التي هي في ذمّة الدولة.أزمة مفتعلةواستدعت الأزمة الحالية تدخّل الرئيس سعيّد، الذي طالب بإيجاد حلّ لها، مشددا على ضرورة توافر مادة الخبز بالمخابز، لكنه لم يفوّت الفرصة لتوجيه الاتهامات لمن سمّاهم "لوبيات وأطراف" تعمل على افتعال الأزمة، وشدّد خلال زيارته مقرّ وزارة الزراعة التونسية، على ضرورة "التصدّى للمحتكرين والعابثين بقوت التونسيين"، قائلا إنّ "الهدف من هذه الأزمات المتعاقبة، هو تأجيج المجتمع لغايات سياسية واضحة".وأشار الرئيس التونسي إلى "وجود ترتيب معيّن من طرف من يعيشون في الظل ويرغبون في التحكم"، مبيّنا أنّ هذه الجهات عادت من جديد لتأجيج الأوضاع الاجتماعية، "لأن لا هدف لها سوى تجويع المواطن".وهذه ليست المرّة الأولى التي يوجه فيها الرئيس سعيّد اتهامات لأطراف سياسية لا يسميها، بالوقوف وراء أزمات المعيشة في البلد لتأجيج الأوضاع، في إشارة إلى منظومة الإخوان المسلمين التي حكمت تونس طيلة العشرية الأخيرة، والذين أُبعدوا عن الحكم بعد إقرار تدابير 25 تموز 2021 الاستثنائية.أزمة هيكليةغير أنّ هذه ليست المرّة الأولى التي تعيش فيها تونس أزمة نقص في مادة الخبز، ويرجح الخبراء الاقتصاديون أنها لن تكون الأخيرة، مشددين على ارتباطها الوثيق بالأزمة الاقتصادية التي تعيشها تونس، ونقص مواردها من العملة الصعبة، إضافة إلى ارتفاع فاتورة توريد الحبوب بعد الحرب في أوكرانيا، مقابل تراجع الإنتاج المحلي بسبب الجفاف.ويقول الخبير الاقتصادي معز حديدان لمنصّة "المشهد"، إنّ التقلّبات المناخية الأخيرة، أثّرت على إنتاج الحبوب على المستوى المحلي، مضيفا أنّ تونس ستضطر لتوريد نحو 80 بالمئة من حاجياتها منها، لافتا إلى أنّ فاتورة التوريد ستكون مكلفة للدولة التونسية.وشهد إنتاج الحبوب في تونس تراجعا هذا العام بسبب نقص الأمطار، وقدّر اتحاد المزارعين أنّ الإنتاج الوطني لن يلبّي هذا العام سوى 5.8 بالمئة من الحاجيات الوطنية، ما يجعل البلاد مضطرة لاستيراد أغلب حاجياتها من الحبوب من الخارج، وفق ما أكده عضو منظمة المزارعين المكلف بالزراعات الكبرى محمد رجايبية، في تصريح سابق لمنصّة "المشهد".وفي تقرير لها قالت جمعية "الرت" التي تُعنى بمكافحة اقتصاد الريع، إنّ أزمة الخبز هي"أزمة هيكلية شاملة يشكو منها قطاع الحبوب"، وأضافت أنها ''ازدادت حدّةً من جرّاء تدهور إمكانات الدولة وعجزها عن تمويل استيراد الحبوب".وذكرت أنّ السبب الحقيقي هو "انخفاض حادّ في كميات القمح الصلب، الموزعة من طرف ديوان الحبوب (مؤسسة حكومية مكلّفة تشرف على قطاع الحبوب وتنظم عملية توريدها وتوزيعها)"، لافتة إلى أنّ "ديونه ارتفعت بنسبة 27 في المئة خلال عام واحد، كما تأخرت الدولة في صرف ميزانية الدعم الموجهة إلى القطاع، ما جعله عاجزا عن استيراد حاجيات السوق من القمح الصلب"."مادّة مهمّة"والخبز مادة أساسية في طاولة التونسيين، وكثيرا ما كان سببًا لاندلاع أزمات سياسية في البلاد منذ فترة حكم الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، حتى أنّ أشهر الحوادث التي حدثت في فترة حكمه، كانت عام 1984 وتُعرف ب"انتفاضة الخبز".ولم تجرؤ أيّ حكومة في تونس على تعديل سعر رغيف الخبز في تونس، أو "الباقات"، طيلة العقود الأخيرة، خوفا من الانعكاسات السياسية والشعبية لهذه الخطوة.غير أنّ الأزمة الاقتصادية التي تعيشها تونس في السنوات الأخيرة، قد تدفعها لرفع الدعم عن الخبز وعن موادّ أساسية أخرى، وذلك على هامش مفاوضاتها مع صندوق النقد الدولي من أجل الحصول على قرض بقيمة 1.9 مليار دولار.ويشترط الصندوق مراجعة منظومة الدعم في تونس، والتي تشمل الموادّ الأساسية والطاقة خصوصا، في المقابل يكرر الرئيس سعيّد في كل مرة، رفضه لأيّ إجراء قد يمسّ معيشة التونسيين.ولا يتجاوز ثمن الرغيف الواحد في تونس 190 مليما (أقل من 0.1 دولار).(المشهد)