في قلب معركة اقتصادية لا تهدأ وتيرتها، يتواصل الصراع التجاري بين الولايات المتحدة والصين، أقوى اقتصادين في العالم، وسط نزيف الأسواق وتبادل الضربات الجمركية والتكنولوجية، فمنذ انطلاق شرارة الصراع قبل سنوات في ولاية دونالد ترامب الأولى، تحول هذا الصراع إلى ساحة مواجهة مفتوحة، ليس فقط على مستوى البضائع والرسوم، بل امتد إلى سباق الهيمنة على التكنولوجيا وسلاسل الإمداد العالمية.ومع التصعيد الأخير الذي فاق الخيال والتوقعات برسوم جمركية لن يقوى عليها أي من البلدين، تبرز تساؤلات حول من يربح من هذه الحرب التجارية الطاحنة؟ وهل يمكن لأحد أن يخرج منها منتصرًا دون أن يدفع الثمن؟، فالولايات المتحدة تراهن على كبح التنين الصيني الذي فاق واشنطن في الميزان التجاري، بينما الصين تعزز تحالفاتها وتبتكر طرقًا مختلفة للنجاة والتفوق من أجل الفوز في هذا الصراع المحموم.التنين الصيني لا يقبل الخسارةقررت الصين رفع الرسوم الجمركية المفروضة على بضائع الولايات المتحدة الأميركية إلى 84%، في تطور لافت للصراع، الأمر الذي يؤكد أن التنين الصيني لن يقبل الخسارة في معركته مع الرئيس ترامب الذي قرر تأجيل رسومه المفروض على دول العالم لمدة 90 يومًا، ليتفرغ فقط للصين.وكتب الرئيس الأميركي ترامب عبر منصته: "بناءً على عدم احترام الصين للأسواق العالمية، أرفع بالتالي الرسوم الجمركية التي تفرضها الولايات المتحدة على الصين إلى 125%، بفعالية فورية، في مرحلة ما، نأمل في المستقبل القريب، أن تدرك الصين أن أيام الاحتيال على الولايات المتحدة، ودول أخرى، لم تعد مستدامة أو مقبولة". سلاح العملة في الحرب التجاريةفي اليوم الثاني من هذه التوترات، قررت الصين استخدام سلاح عملتها المحلية، حيث سمحت السلطات الصينية، بتراجع قيمة اليوان أمام معظم العملات الرئيسية، في وقت تواجه فيه بكين تداعيات متزايدة من الحرب التجارية المتفاقمة مع الولايات المتحدة، والتي تُنذر بمزيد من الضغط على اقتصادها المتباطئ.وشهد اليوان انخفاضاً ملحوظاً أمام الدولار الأميركي، ليصل إلى أدنى مستوياته منذ الأزمة المالية العالمية 2008، قبل أن يعوّض جانباً من خسائره قبيل اجتماع مرتقب لكبار القادة الصينيين لبحث إجراءات تحفيز اقتصادي محتملة. وتراجعت العملة الصينية إلى أدنى مستوى لها في 15 شهراً مقابل سلة من عملات الشركاء التجاريين، في إطار سعي بكين لجعل منتجاتها أكثر جاذبية مع انخفاض العملة المحلية.وقد عزّز هذا التراجع التوقعات بمزيد من الهبوط في قيمة اليوان، خاصة بعد أن خفّض بنك الشعب الصيني السعر المرجعي للعملة للجلسة السادسة على التوالي، في خطوة محسوبة تعكس رغبة بكين في إضعاف العملة بشكل تدريجي لدعم تنافسية صادراتها.وتشير التطورات الأخيرة إلى أن بكين قد تعيد تركيزها التجاري نحو شركاء آخرين، في ظل غياب مؤشرات على قرب إنهاء النزاع مع واشنطن.الميزان التجاري ينصف الصينأظهرت بيانات صادرة عن مكتب الممثل التجاري الأميركي (USTR)، أن حجم التبادل التجاري في السلع بين الولايات المتحدة والصين خلال عام 2024 بلغ نحو 582.4 مليار دولار.وتوزعت هذه القيمة على صادرات أميركية إلى الصين بقيمة 143.5 مليار دولار، مسجلة انخفاضًا بنسبة 2.9% مقارنة بعام 2023، في حين ارتفعت الواردات الأميركية من الصين إلى 438.9 مليار دولار، بزيادة قدرها 2.8%.وبذلك ارتفع العجز التجاري الأميركي لصالح الصين إلى 295.4 مليار دولار، أي بزيادة بلغت 5.8% عن العام السابق، مما يعكس استمرار الفجوة التجارية بين البلدين.ويُشير هذا العجز المتنامي إلى أن الجهود الأميركية لتقليل الاعتماد على الواردات الصينية لم تُحقق أهدافها بعد، مما يسلط الضوء على تعقيدات العلاقة الاقتصادية بين أكبر اقتصادين في العالم.من ينتصر في الصراعمنصة "المشهد" وجهت سؤالاً لخبراء الاقتصاد ومختصين في الشأن التجاري، حول من ينتصر في هذا الصراع التجاري، وجاءت جميع الإجابات تؤكد أن كلتا الدولتين سيتعرض لخسائر اقتصادية فادحة لوجود بعض التكامل في عدد من الصناعات التقنية الدقيقة. لكن المهندس فاضل المرزوقي أحد مستثمري المناطق الصناعية في الصين، يرى أن "الصين صاحبة الكفة الراجحة في الحرب، لكونها تمتلك استثمارات في دول تمتلك معها الولايات المتحدة اتفاقات تجارية مثل كندا أو المكسيك بخلاف دول أخرى في أغلب قارات العالم"، مضيفًا "البضائع الصينية ستدخل أميركا بجمارك أقل لكن بدون شعار صنع في الصين".وأشار إلى أن الأسواق ستواجه حالة من التقلبات العنيفة، وسيجد المستهلكون أنفسهم أمام زيادات كبيرة في أسعار السلع الأساسية وغير الأساسية خصوصا في أميركا، مما سيؤثر بشكل مباشر على القدرة الشرائية ويفاقم الأعباء الاقتصادية على الأفراد والشركات في كلتا الدولتين.خفض أميركي للفائدة أصبح وشيكًاوقال، مسؤول تجاري سابق لدى واشنطن، إن التداعيات الخطيرة للرسوم الجمركية التي فرضتها الصين وأميركا، قد تعرّض الاقتصاد الأميركي لمخاطر كبيرة، فضلاً عن التأثيرات التضخمية التي ستنعكس على الأسواق العالمية، وأكبر دليل أن الاحتياطي الفيدرالي حاليًا سيقوم بإعادة النظر في تسريع خفض الفائدة لينقذ الأمر بعد التعريفات الباهظة التي سترفع مستويات التضخم.وتوقع الليثي، أن يستمر هذا التصعيد بين البلدين لحين الجلوس للتفاوض حول القضايا العالقة التي لعل أبرزها الدعم الصيني للسلع المصدرة، وخفض اليوان، ولحين الوصول إلى هذه المرحلة فنحن أمام سيناريوهات عدة منها: زيادة التعريفات الجمركية تعني ارتفاع تكاليف الاستيراد في واشنطن لكونها صاحبة الحصة الاستيرادية الأكبر.ارتفاع تكاليف أسعار السلع والخدمات في أميركا وفي الصين سيكون التأثير أقل، لأن بكين بالفعل لديها علاقات تجارية قوية في أسواق يمكنها أن توفر بدائل للسلع والمنتجات والخامات الأميركية.توقعات بارتفاع التضخم الأميركي فوق مستهدفات مجلس الاحتياطي الأميركي مع اقتراب انتهاء دورة التشديد النقدي.الضغط على القدرة الشرائية للمستهلك الأميركي مع زيادات الأسعار.مخاوف من تباطؤ النمو الاقتصادي العالمي والأميركي، والدليل أن النفط تأثر بقوة بهذه التطورات ليخسر أكثر من 10%.إعادة تشكيل التجارة العالميةمن جهته، كشف أمين عام الغرف التجارية العربية خالد حنفي، أن الحرب التجارية الحالية ستؤدي لإعادة تشكيل التجارة العالمية من خلال البحث عن شركاء تجاريين جدد أو تعزيز التجارة الإقليمية لتجنب الرسوم المرتفعة، مما قد يمثل فرص قوية لبعض الدول، كما أنها ستمكن الصين من توسيع تواجدها في بعض الأسواق التي تمتلك اتفاقات تجارية جيدة مع العالم.وأضاف أن "مناخ الصراع التجاري الحالي قد يؤدي إلى تداعيات سلبية على تكاليف الإنتاج، بل وإعادة تشكيل المشهد الاقتصادي العالمي وتحول كبير في شكل منظومة القوى الاقتصادية العالمية، وقد نشهد ظهور تحالفات اقتصادية خلال وقت قريب".(المشهد)