تضع الحربان في كل من أوكرانيا وغزة الاقتصاد العالمي أمام اختبار جدّي وفق أغلب المحللين الاقتصاديين، ويسود الإجماع على أن التداعيات الاقتصادية للصراعين ستكون كبيرة رغم التفاوت في حجمها وانعكاساتها المباشرة وغير المباشرة من منطقة لأخرى.فهل يتحمل الاقتصادي العالمي حربين في الوقت نفسه؟ وأي تداعيات لتزامن الصراعين؟ يرى خبراء أن الاقتصاد العالمي غير قادر على تحمل صدمة كبيرة أخرى، خصوصا بعد تعرضه لسلسلة من الصدمات على مدى السنوات الأخيرة بداية من وباء كورونا، مرورًا بالحرب بين روسيا وأوكرانيا وصولاً إلى الحرب في غزة. وفي 7 أكتوبر بدأت إسرائيل حربًا ضد قطاع غزة بعد أن نفذ مقاتلو "حماس" هجومًا مباغتًا في عمقها أوقع أكثر من 1400 قتيل.ضربة قاسيةفي السياق، يقول الخبير الاقتصادي مراد الحطاب إن تواصل الحربين في الوقت نفسه يشكل ضربة قاسية للاقتصاد العالمي الذي يعيش وفق تقديره مرحلة غير مسبوقة من الهشاشة. وفيما كبدت الحرب في أوكرانيا التي تشارف على عامها الثاني الاقتصاد العالمي خسائر كبيرة آثارها متواصلة، يتوقع الخبراء أن تعمق الحرب في إسرائيل هذه الجراح على نطاق واسع يتجاوز المنطقة. وفي السياق، ذكرت صحيفة "فاينانشيال تايمز" أن الحرب في غزة يمكن أن تؤدي حتّى إلى الصراع بين القوى العظمى، أي بين الولايات المتحدة وإسرائيل من جانب، والصين وإيران من جانب آخر. وترى "فاينانشيال تايمز" أنه إذا انتشرت الحرب، فسيكون للأمر تداعيات كبيرة على الاقتصاد العالمي، لأن هذه المنطقة تعدّ أهم منتج للطاقة في العالم. تأثيرات متفاوتة وتختلف تقديرات انعكاسات تزامن الحربين على الاقتصاد العالمي وفق الخبراء رغم الإجماع على أهميتها. ويوضح الباحث الاقتصادي الأردني مازن إرشيد أن حرب روسيا وأوكرانيا أحدثت تأثيراً كبيراً ومباشراً على الاقتصاد العالمي، مبيّنا في تصريح لمنصّة "المشهد" أن روسيا، كونها من أكبر مصدري النفط والغاز في العالم، لعبت دوراً محورياً في ارتفاع أسعار الطاقة عالمياً، مما أدى إلى زيادة التضخم وتكاليف الإنتاج في العديد من الدول.ويضيف أنه علاوة على ذلك، أدى هذا الصراع إلى اضطرابات في سلاسل التوريد العالمية، خصوصا في مجالات الزراعة والمواد الخام، "حيث تعتبر أوكرانيا مصدراً رئيسياً للحبوب والمعادن". في المقابل، يؤكد إرشيد أن الحرب في غزة رغم كونها تحمل أبعاداً إنسانية وسياسية كبيرة، إلا أن تأثيرها على الاقتصاد العالمي يبقى محدوداً نسبياً مقارنةً بالحرب الروسية، ويشرح ذلك قائلا: "هذا يعود إلى حجم الاقتصاد في غزة ومحدودية تأثيرها الاقتصادي العالمي". لكنه يرجح أن الحرب في غزة قد تؤدي إلى زيادة في أسعار النفط بشكل مؤقت بسبب المخاوف من عدم الاستقرار في الشرق الأوسط، "لكن هذه التأثيرات غالباً ما تكون قصيرة الأمد" على حد تعبيره. تأثير الحروب على الاقتصادلا يبدو تقييم تأثيرات تزامن الحربين على الاقتصاد العالمي على المدى القريب والمتوسط أمرًا ممكنًا بالنظر للظروف الحالية وفق خبراء الاقتصاد الذين يشدّدون على أن هناك حالة عدم يقين تخيّم على الوضع حاليًا "يصعب معها تقديم نماذج تقديرية كمية يكون هامش وثوقيتها مقبولا"، كما يقول الحطاب الذي يشرح لمنصّة "المشهد" أن كبرى المؤسسات الدولية أكدت أنها غير قادرة على تقديم تقديرات في ظل مناخ عدم اليقين. ويشارك إرشيد الحطاب تقييمه مؤكدا أن العامل المشترك بين الحربين هو الزيادة في عدم اليقين والمخاطر في الأسواق العالمية، ويضيف أن "الحروب بطبيعتها تؤدي إلى زيادة المخاوف من اضطرابات سياسية واقتصادية يمكن أن تؤثر على الاستثمار والنمو الاقتصادي"، لكنه يستدرك مؤكدا أنه مع ذلك، فإن تأثير الحرب الروسية أكبر بكثير نظراً لحجم الاقتصاد الروسي وتأثيره في الأسواق العالمية، خصوصا في مجال الطاقة. ولا يستبعد أن يتفاقم التأثير في الحربين إذا ما تطور الصراع ليشمل دولاً أخرى أو يؤدي إلى تعطيل كبير في سلاسل التوريد العالمية، "في حالة الحرب الروسية، التصعيد المحتمل في الصراع قد يؤدي إلى فرض المزيد من العقوبات الاقتصادية على روسيا، وهو ما سيؤثر بشكل أكبر على تجارة الطاقة العالمية ويعزّز من احتمالات حدوث ركود اقتصادي في بعض الدول، هذا بالإضافة إلى المخاوف المتزايدة من انقطاع إمدادات الغاز الروسي إلى أوروبا، مما قد يسبب أزمة طاقة حادة ويؤثر سلباً على النشاط الاقتصادي". أما فيما يخص الحرب في غزة، فيرى أن التصعيد المستمر قد يؤدي إلى زيادة التوترات في الشرق الأوسط، مما قد يؤثر على أسعار النفط العالمية ويزيد من مخاطر الاضطرابات في منطقة تعتبر حيوية لإمدادات الطاقة العالمية لكنه يشدد على أن" تأثير الحرب في غزة على الاقتصاد العالمي يبقى محدوداً نسبياً مقارنة بتأثير الحرب الروسية".على الجهة الأخرى، يؤكد الحطاب أن استمرار الحرب في غزة خلال الأشهر الثمانية المقبلة وفق تقرير البنك الدولي سينتج عنه علاوة على ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء تراجع أداء القطاع السياحي بشكل كبير في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، خصوصًا بالنسبة للأردن ومصر التي زارها على سبيل المثال العام الماضي نحو 750 ألف سائح إسرائيلي. وضعية معقدة ويؤكد إرشيد أن تحديد الأضرار الدقيقة في النمو الاقتصادي العالمي نتيجة لكل من الحرب الروسية والحرب في غزة "يعتبر معقداً"، نظراً لتشابك هذه التأثيرات مع عوامل اقتصادية عالمية أخرى مثل التضخم، التغيرات في سياسات البنوك المركزية، وغيرها. ويتابع "مع ذلك، فإن حرب روسيا وأوكرانيا أحدثت تأثيراً كبيراً على الاقتصاد العالمي، خصوصا من خلال ارتفاع أسعار الطاقة والتأثيرات على سلاسل التوريد العالمية". ويزيد "تقديرات صندوق النقد الدولي وغيره من المنظمات الاقتصادية الكبرى أشارت إلى أن هذه الأزمة قد تخفض النمو الاقتصادي العالمي بمقدار نقاط مئوية عدة، خصوصا في أوروبا التي تعتمد بشكل كبير على الطاقة الروسية". أمّا بالنسبة للحرب في غزة، فإن تأثيرها على النمو الاقتصادي العالمي يكون أقل وضوحاً وأقل حدة من الحرب الروسية وفق تقديره، ويلفت إلى أن "تأثيرات الحرب في غزة تقتصر أكثر على المنطقة المحلية وربما تؤثر بشكل طفيف على أسواق النفط. ومع ذلك، لا توجد تقديرات محددة تشير إلى تأثير مباشر وكبير على النمو الاقتصادي العالمي ككل". بدوره، يؤكد الحطاب أن من تداعيات تزامن الحربين بطء الاستثمارات الخاصة وتراجع التجارة الدولية التي بلغت أبطأ مستوياتها منذ 5 عقود فيما وصلت أسعار الفائدة إلى أعلى مستوياتها منذ الأزمة المالية العالمية لسنة 2006. ويزيد أن "البنك العالمي وصندوق النقد الدولي راجعا في تقاريرهما السنوية آفاق النمو في العالم بتخفيض النسب المتوقعة للنمو لسنتين 2024 و2025 بنسبة نقطة مئوية تقريبا".فاتورة باهظة للحربولم تسلم كل دول العالم من تداعيات الحربين في أوكرانيا وغزة على اقتصاداتها لكن هذه التأثيرات اختلفت بحسب صمود الدول وقدرتها على امتصاص صدماتها. ويقول الحطاب إن تزامن الحربين نتج عنه بشكل عام ارتفاع لنسب التضخم ولنسب الفائدة وشحّ التمويلات على مستوى سوق الإقراض والديون في العالم. لكنه يؤكد أن الدول منخفضة أو متوسطة الدخل هي من تحملت الفاتورة الباهظة لحربي أوكرانيا وغزة خصوصًا على مستوى الديون باعتبار أنها تعاني من مستويات مرتفعة للديون. ويتوقع أن يعيش الاقتصاد العالمي ركودًا أكبر وأن تصل نسب التضخم إلى مستويات أرفع خصوصًا في بعض دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. ويستبعد الحطاب أن تلي الحربين مخططات لإعادة الإعمار سواء في أوكرانيا أو في غزة مبررًا ذلك بشح السيولة عالميًا، ووفق تحليله عادة ما تكون هناك مؤسسات مستفيدة من الحروب "لكن هذا لن يحدث في الحالتين الفلسطينية والأوكرانية لغياب السيولة التي تمكن من إعادة البناء". ويختم الحطاب قائلا إن المحيط الهادئ تحوّل بسبب الحربين في أوكرانيا وغزة إلى مركز ثقل للاقتصاد العالمي، مشددا على أن إسرائيل تضرّرت اقتصاديا مثلها مثل أوكرانيا التي جرّت كامل أوروبا لحرب كُلفتها باهظة كانت عناوينها الكبرى الشحّ الطاقي ونقص السيولة.(المشهد)