تسبب الجفاف الشديد في اختناقات مرورية كبيرة في قناة بنما لأشهر عدة، بحسب ما تقول مجلة "فورين بوليسي" الأميركية، مشيرة إلى أنّ الجفاف، الذي ربما تفاقم بسبب تغيّر المناخ، أدى إلى انخفاض المياه في القناة إلى مستويات غير مسبوقة، ما أجبر بنما على السماح لعدد أقلّ من السفن بالمرور.وتؤدي التغيرات الجديدة، إلى جانب زيادة تكاليف الشحن، إلى عدم اليقين بشأن مستقبل أحد أهم ممرات التجارية الحيوية الأكثر ازدحامًا في العالم، حيث يقول المدير التجاريّ الإقليميّ في وكالة الشحن ليث إيجنسيز سورين ستوكيبيك أندرسن: "لقد غيّر هذا بشكل جذريّ كيفية عمل الشحن عبر القناة".ويمر ما يقرب من 5% من التجارة العالمية المنقولة بحرًا عبر قناة بنما، والتي تُعدّ بوابة لـ40% من حركة الحاويات الأميركية.لغز لوجستي محفوف بالمخاطرومع اتجاه القناة إلى موسم جفاف، حيث سيتم تشديد قيود العبور بشكل أكبر، تستعد شركات الشحن التي اعتمدت منذ فترة طويلة على القناة، لتأخيرات أسوأ مع محاولات لإعادة توجيه شحناتها، الأمر الذي قد أدى إلى خلق لغز لوجستيّ محفوف بالمخاطر، وسط أزمة بحرية متزامنة في طريق الشحن الرئيسيّ الآخر في العالم، وهي قناة السويس المصرية، التي تأثرت بسبب الحرب في الشرق الأوسط، حسبما تذكر "فورين بوليسي". ومع تزايد شيوع الظواهر المناخية المتطرفة، تخشى شركات الشحن والحكومات أنّ أزمة قناة بنما قد لا تكون انحرافًا موقتًا بل هي واقع جديد، حيث دفع الحرص على تسليم بضائعهم في الوقت المحدد، شركات الشحن، إلى التساؤل عما إذا كانت القناة ستظل شريانًا موثوقًا للتجارة العالمية، وأثار اهتمامًا متجددًا بإيجاد بدائل أخرى للقناة. ويقول أستاذ الهندسة الفخري في جامعة نورث وسترن جوزيف شوفر، إنّ الجفاف يشكل "تهديدًا خطيرًا لقناة بنما"، إذ لم يتم إنشاء القناة، التي تم بناؤها منذ أكثر من 100 عام، لتحمل الانخفاض الشديد في هطول الأمطار. وهطول الأمطار ضروريّ لاستمرار عمليات قناة بنما، حيث يتطلب كل عبور نحو 52 مليون غالون من المياه العذبة، لرفع وإنزال السفن داخل وخارج القناة. وعادة ما تأتي هذه المياه من بحيرات اصطناعية تعتمد على هطول الأمطار. ويمتد موسم الأمطار في بنما عادةً من أواخر أبريل إلى نوفمبر، ولكن في العام الماضي، شهد أكتوبر هطول أمطار أقل بنسبة 41% من المتوسط، ومن المتوقع أن يستمر انخفاض هطول الأمطار حتى موسم الأمطار في 2024، وفقًا للتقرير. وفي ديسمبر الماضي، انخفضت المياه في بحيرة غاتون، الخزان الرئيسي للقناة، إلى مستويات غير مسبوقة في هذا الوقت من العام، ومن المتوقع أن تتقلص مستويات المياه بشكل أكبر في الأشهر المقبلة.ما أسباب جفاف قناة بنما؟يعود الجفاف في قناة بنما إلى ظاهرة النينيو القوية، وهو نمط مناخيّ يتكرر كل سنتين إلى 7 سنوات، ويتميز بدرجات حرارة المحيط الدافئة، إذ تؤدي ظاهرة النينيو إلى تعطيل دوران الغلاف الجوي، ما يؤدي إلى إضعاف أو إزاحة الرياح التي كان من الممكن أن تجلب المزيد من الأمطار إلى بنما وغيرها من البلدان الاستوائية. ورغم أنّ بنما معتادة على ظاهرة النينيو، إلا أنّ هذا الجفاف أكثر حدّة من المعتاد، ومن المرجح أن تصبح الظواهر الجوية المتطرفة أكثر تواترًا مع تفاقم تغير المناخ، بحسب ما يقول مدير برنامج تغيّر المناخ والبيئة في معهد عصام فارس التابع للجامعة الأميركية ببيروت نديم فرج الله، مضيفًا: "لم نشهد بعد الانفجار الكامل لظاهرة النينيو". ونتيجة لذلك، ستكون العواقب وخيمة بالنسبة لدولة بنما، خصوصًا أنّ اقتصاد بنما يعتمد بشكل كبير على القناة، وفقًا لـ"فورين بوليسي". وفي عام 2022، حققت قناة بنما إيرادات بقيمة 4.32 مليارات دولار، أي ما يعادل نحو 6.6% من الناتج المحلّي الإجماليّ للبلاد. فيما كلف الجفاف الناجم عن ظاهرة النينيو قناة بنما ما يقدّر بنحو 200 مليون دولار من الإيرادات في السنة المالية الحالية. وبحسب التقرير، استجاب المسؤولون البنميون للجفاف، بفرض ضوابط مشددة على عبور القناة، حيث قامت هيئة قناة بنما في الأشهر الأخيرة، بتقييد المرور عبر القناة، من نحو 36 إلى 24 سفينة يوميًا، وهو الحدّ الذي سيتم تخفيضه مرة أخرى إلى 18 سفينة في فبراير المقبل. وفي ردّ على مجلة "فورين بوليسي"، قالت هيئة قناة بنما، إنها تنفذ تدابير إضافية لتوفير المياه، "وبدأت في إعادة استخدام المياه لغرف الهويس المختلفة، وسمحت بعبور سفينتين في وقت واحد، إذا كانت السفن صغيرة بما يكفي" كما شددت هيئة قناة بنما أيضًا الحدود، التي تنظم مدى عمق بقاء السفن في الماء؛ وتوقع الخبراء أنّ هذا قد يُجبر بعض السفن على تقليل حمولتها بنسبة تصل إلى 40%، وهذا قد يثير الإحباط بين شركات الشحن. ويقول الرئيس البنميّ السابق مارتن توريخوس، الذي قاد مشروعًا لمضاعفة قدرة القناة في عام 2006، إنّ القيود غير المتوقعة دفعت مستخدمي القناة إلى القلق بشأن قدرتها المستقبلية وموثوقيّتها.وقبل الجفاف، كان بإمكان السفن حجز المرور عبر القناة قبل 3 أسابيع أو الانتظار في الطابور من دون حجز، ولكن الآن، تضاعفت أوقات الانتظار 5 مرات في بعض الحالات، ويتم حجز المواعيد أحيانًا قبل أشهر، حسبما يقول المدير التجاريّ الإقليميّ في وكالة الشحن ليث إيجنسيز سورين ستوكيبيك أندرسن.بدائل قناة بنماتواجه شركات الشحن 3 خيارات، وكلها مكلفة وهي: الدفع مقابل تجاوز الطابور، أو الانتظار، أو إعادة تغيير المسار، وفقًا لتقرير "فورين بوليسي". وبالنسبة للسفن التي تختار تغيير مسارها، فإن البدائل الـ3 الرئيسية هي قناة السويس في مصر، ومضيق ماجلان في تشيلي، ورأس الرجاء الصالح في جنوب إفريقيا. الأخيران موثوقان ولكنهما يتطلبان رحلات أطول بكثير. والخيار الأقصر هو قناة السويس، الممر المائيّ الاصطناعيّ الذي يربط البحر الأبيض المتوسط بالمحيط الهندي، إذ تسمح قناة السويس بدخول المزيد من السفن، والتي تصل إلى 100 سفينة في اليوم الواحد، أي أكثر من 4 أضعاف القدرة الحالية لقناة بنما. لكن، مع الحرب في الشرق الأوسط بين إسرائيل و"حماس"، هناك مخاوف جدية بشأن المرور عبر البحر الأحمر، بعدما شنت جماعة "الحوثي" 27 هجومًا على سفن تجارية. وقد أدى البحث عن خيارات بديلة لقناة بنما، إلى زيادة الاهتمام بطرق التجارة في دول أميركا اللاتينية التي تأمل في جذب حركة المرور من القناة. وفي نيكاراغوا، قال الرئيس دانييل أورتيغا، إنه يريد إحياء خطة لبناء قناة بين المحيطات، لكنّ العديد من مواطني نيكاراغوا يرفضون هذا الاحتمال في واحدة من أفقر دول المنطقة وأكثرها فسادًا. أما في كولومبيا التي تمتلك خططًا أكثر واقعية إلى حدّ ما، فتقول وزارة النقل ردًا على "فورين بوليسي"، إنّ الحكومة قد طورت بالفعل المرحلة الأولى من خطط إنشاء قطار عبر المحيطات بطول 123 ميلًا مع أنفاق بطول 7 أميال، لربط سواحل البلاد على المحيط الهادئ والبحر الكاريبي، متوقعة أن يكون المشروع جاهزًا لطرح مناقصة التنفيذ بحلول نهاية عام 2024. ووفق التقرير، هناك أيضًا مشاريع أخرى اكتملت بالفعل أو قيد التنفيذ. ففي عام 2022، افتتحت باراغواي المرحلة الأولى من الطريق السريع المزدوج، وهو ممر طريق المحيط الحيوي، الذي سيمتد من تشيلي عبر الأرجنتين وباراغواي، وينتهي في البرازيل. كما في ديسمبر الماضي، افتتحت المكسيك جزءًا من مشروع للسكك الحديدية بقيمة 2.8 مليار دولار للتنافس مع قناة بنما، من خلال نقل البضائع بين المحيطين الهادئ والأطلسي. رغم ذلك، يُشكك الخبراء في أنّ هذه المشاريع ستشكل تهديدًا لقناة بنما في أيّ وقت قريب، إذ يرى أستاذ الهندسة الفخريّ في جامعة نورث وسترن جوزيف شوفر، أنّ "المشروع المكسيكيّ رغم أنه واعد، إلا أنه يتيح نقل نسبة صغيرة من البضائع المنقولة بين المحيطين الأطلسيّ والهادئ، وأنّ التكاليف المرتفعة تجعله أقلّ جاذبية من قناة بنما". في الوقت نفسه، يقول المدير التجاريّ الإقليميّ في وكالة الشحن ليث إيجنسيز سورين ستوكيبيك أندرسن، إنّ شركات الشحن العالمية من غير المرجح أن تراهن على طرق غير مختبرة في صناعة تُعتبر الموثوقية فيها أمرًا أساسيًا. لهذا، بحسب التقرير، ستظل قناة بنما بمثابة الممر التجاريّ الرئيسيّ في المنطقة خلال الوقت الحالي، ولكن إذا لم تستجب سلطات القناة للظواهر المناخية المتطرفة المتصاعدة، فإنها تخاطر بخسارة أعمالها في المستقبل. حلول لإنقاذ قناة بنما يتمثل أحد الحلول، التي اقترحها مجلس إدارة قناة بنما، في إقامة سدّ على نهر إنديو وحفر نفق عبر جبل قريب لتوصيل المزيد من المياه إلى بحيرة غاتون. ومن المتوقع أن يكلّف هذا المشروع نحو 900 مليون دولار، ويمكن أن يستغرق 6 سنوات لإكماله. ومع ذلك، في حين كان هناك دعم شعبيّ واسع قبل توسيع القناة في عام 2006، إلا أنّ هذا المشروع أكثر إثارة للجدل داخل البلاد، ومن شأن السد الجديد أن يغمر الأراضي ذات التنوع البيولوجي، ويؤدي إلى نزوح المجتمعات المحلية. لهذا يخشى السياسيون الموافقة عليه قبل الانتخابات الرئاسية في بنما مايو المقبل. وأثار احتمال إنشاء خزان جديد في القناة، جدلًا بالفعل خلال الفترة الماضية، حيث تصاعدت التوترات السياسية منذ خريف 2023، عندما أصابت التظاهرات الشعبية البلاد بالشلل لأكثر من شهر. واحتج البنميون على العقد الحكوميّ المتسرع الذي سمح لشركة مينيرا بنما، وهي شركة تابعة لشركة فيرست كوانتوم مينيرالز الكندية، بتشغيل منجم نحاس عملاق في غابة متنوعة بيولوجيًا في البلاد لمدة 20 عامًا على الأقل. وهتف المحتجون في الشوارع: "نحن دولة قناة، ولسنا دولة تعدين". وقالت نائبة عمدة مدينة بنما السابقة ورئيسة منظمة بنما المستدامة رايسا بانفيلد، إنّ الاحتجاجات كشفت عن أزمة هوية البلاد في سعيها لرسم مستقبلها، خصوصًا أنّ القناة وصناعة التعدين والشعب البنمي، يتنافسون جميعًا على الموارد المائية. بدوره يقول أستاذ الهندسة الفخري في جامعة نورث وسترن جوزيف شوفر، إنه بغضّ النظر عما إذا كانوا سيبنون السدّ الجديد، فيجب على سلطات القناة التخطيط للمستقبل. ويأمل شوفر أن تمنح المنافسة المحتملة في أميركا اللاتينية القناة، "حافزًا حقيقيًا للقيام بعمل جيد"، وهو واثق من أنّ هيئة قناة بنما سوف تتوصل إلى حلول على المدى الطويل، تمامًا كما فعلت على نطاق أصغر في عام 2016، عندما نجحت في تنفيذ أحواض موفرة للمياه أدت إلى خفض احتياجات القناة من المياه.(ترجمات)