يستعد المغاربة لاستقبال شهر رمضان في ظروف تتسم بغلاء المعيشة واستمرار ارتفاع الأسعار وتأثيرها على القدرة الشرائية للمواطنين، حيث لم تعد مائدة الإفطار في الوقت الحالي هي تلك التي كانت عليه قبل سنوات، وخصوصا قبل جائحة كورونا التي أثرت على جميع مناحي الحياة.ويُعد شهر رمضان مناسبة مميزة للمغاربة الذين يغيرون من طبائعهم الاستهلاكية، والاستمتاع بتناول المأكولات الشهية التي تزين موائد إفطارهم، إذ ترتبط بهذا الشهر العديد من العادات الاستهلاكية التي تميزه عن باقي أشهر السنة.غلاء المعيشةلكن غلاء المعيشة يُشكل هاجساً كبيراً لدى العديد من المغاربة، حيث ارتفعت أسعار المواد الغذائية بشكل ملحوظ خلال الفترة الأخيرة، مما يجعل من الصعب على بعض الأسر توفير احتياجاتها الأساسية خلال شهر رمضان، وخصوصا الفئات الهشة والفقيرة.من جهة أخرى تُلقي تداعيات زلزال الحوز بتداعياتها على مئات الأسر التي ستصوم رمضان في جو وظروف لم يسبق لها عيشه من قبل، إذ ما يزال أغلب المتضررين يعيشون في خيام مؤقتة أو منازل مركبة في انتظار إعادة بناء منازلهم التي دمرها الزلزال المدر الذي ضرب منطقة الحوز في سبتمبر الماشي وأودى بحياة قرابة 3000 شخص وجرح آلاف آخرين. قبل سنوات قليلة، وبالضبط حينما ينتصف شهر شعبان، كانت جل الأسواق وخصوصا في المدن المغربية الكبرى تعج بآلاف الأشخاص وهم يصطفون أمام المتاجر و"الحوانيت" لاقتناء مستلزمات شهر رمضان، حيث كانت السلع متوفرة بأسعار معقولة وتناسب القدرة الشرائية لجميع طبقات المجتمع المغربي، لكن نظرة سريعة على بعض الأماكن التجارية في العاصمة الرباط وسلا المجاورة، يظهر اليوم صورة أخرى غير تلك التي كانت معهودة قبل سنوات. لم يعد الحال كما كان عليه، حيث باتت أغلب الأسر المغربية تتقشف في نفقاتها المتعلقة بشهر رمضان، وتقتصد في مصاريف المعيشة التي باتت في ارتفاع مضطرد خلال السنوات الأخيرة، وهو ما أجبر الكثيرين على اللجوء إلى القروض البنكية بتغطية تكاليف المعيشة.عُسر وإفلاسوأظهر تقرير رسمي للبنك المركزي المغربي أن حجم اقتراض الأسر المغربية خلال العام الماضي والشهور الأولى من السنة الجارية شهدت ارتفاعًا ملحوظًا، ويوازيها عدم قدرة المقترضين على السداد، حيث لم تتمكن البنوك المغربية من استخلاص ما أقرضته لزبائنها خلال شهر يناير الماضي تجاوزت قيمة السلفات 993 مليون درهم، بزيادة نسبتها 1.1% مقارنة بشهر ديسمبر الماضي. وبحسب التقرير الرسمي لبنك المغرب، فقد باتت الديون تلتهم 40% من مداخل الأسر المغربية، وهو ما جعلها تدخل في حالة عسر وإفلاس وأثر على توازناتها المالية. وأدى غلاء المعيشة ومخلفات أزمة جائحة كورونا بأسر مغربية كثيرة إلى الاقتراض للحفاظ على مستوى عيشها وتغطية متطلبات الحياة، حيث تفيد معطيات بنك المغرب أن مديونية الأسر ارتفعت خلال السنوات الخمس الأخيرة بشكل ملحوظ، بسبب ارتفاع الأسعار وتراجع مصادر الدخل. ويرى مراقبون أن هذا التراجع الكبير في القدرة الشرائية للمواطن المغربي اليوم يعزى إلى عوامل عدة، أبرزها استمرار ارتفاع معدلات التضخم وغلاء الأسعار، إضافة إلى الصعوبات المالية التي تواجه الأسر في إعادة الديون المستحقة، فضلا عن استمرار منحى البطالة في الارتفاع.كساد وغلاءفي زنقة التجار باب الخميس بالمدينة العتيقة لسلا المجور للعاصمة الرباط، تبدو الحركة هادئة بالقرب وداخل متاجر تعرض مختلف أنواع البضاعات والتمور والتوابل التي يقبل عليها المغاربة بكثرة قبيل حلول شهر رمضان، فيما تعرض أخرى مختلف أنواع الأجبان والأواني وغيرها من المستلزمات التي تحتاجها المطابخ المغربية لإعداد مائدة الإفطار، لكن الرواج ليس بتلك الكثافة المعهودة، يقول سعيد، وهو صاحب محل للبيع بالجملة والتقسيط، إذ تتسم هذه الفترة بكساد لم تشهده السوق منذ سنوات.ويضيف سعيد، في حديث لمنصة "المشهد" أن الحركة التجارية مختلفة تماما عن السابق وذلك بسبب الغلاء الذي تعرفه مختلف السلع ولبضائع، وخصوصا التمور والتوابل التي شهدت أسعارها ارتفاعا صاروخيا خلال الشهور الأخيرة بفعل تنامي الجفاف، وتأثير أزمة البحر الأحمر على وصول البضائع للمغرب. وفي وقت تشهد فيه أسعار الخضر الأساسية كالبطاطس والبندورة انخفاضا في الأسعار خلال الأسابيع الأخيرة، تعرف أسعار اللحوم والأسماك والقطاني والفواكه الطرية والجافة ارتفاعا ملحوظا يوما بعد يوم، حيث يعزى السبب في ذلك إلى تأثير سنوات الجفاف المتتالية ونقص مخزونات مياه السقي، إضافة إلى مشاكل التوريد التي تواجهها الأسواق الكبرى والصغرى بسبب اعتراض سفن الشحن التجارية بالبحر الأحمر.موائد شبه فارغةمن جهة أخرى تشتكي خديجة، وهي ربة بيت، تقيم بمنطقة بطانة بسلا من ارتفاع أسعر مستلزمات مائدة رمضان، وتقول إن ما كانت تقتنيه في السابق لم يعد هو ما تشتريه اليوم، "كل شيء ارتفع ثمنه، ومصروف الشهر لم يعد يكفي سوى لتلبية احتياجات أسبوعين على الأكثر. وتضيف المواطنة المغربية أن ارتفاع الأسعار حرم الكثيرين من تزيين مائدة الإفطار في شهر رمضان من "الشهيوات" التي تميز هذا الشهر المبارك، وخصوصا "السفوف" وهي "تخليطة" من الدقيق والفواكه الجافة ومواد أخرى يكثر استهلاكها في المغرب خلال هذا الشهر، إذ ارتفع ثمن اللوز والسمسم إلى مستويات قياسية، ولم يعد بإمكان الأسر ذات الدخل المحدود إعداد هذه الأكلة المفضلة، ناهيك أيضا عن "الشباكية" التي ارتفعت أسعار موادها الأساسية لمستويات غير مسبوقة وهو ما يندر بموائد فارغة في الشهر الفضيل، تختم المواطنة المغربية، حديثها لـ "المشهد".عادات نمطيةويرى الباحث في علم النفس الاجتماعي سليم الحياني أن رمضان في المغرب لا يجب أن يكون فقط للأكل والتسابق من أجل تحضير مائدة الإفطار بما لذ وطاب، بل يجب مراجعة أنماط الاستهلاك والتغذية التي تميز المغاربة خلال هذا الشهر الفضيل والاقتصار على الأساسيات.ويضيف الباحث المغربي في حديث لمنصة "المشهد" أن طقوس التحضير لرمضان بالمغرب تتشابه في كثير من الدول العربية، حيث يكثر الإقبال على التبضع وكأن الاستهلاك يكثر فقط في شهر رمضان، فيما الحكمة من فرض الصيام هو الإحساس بالمساكين والفقراء الجياع، وليس تحضير الطعام بجميع الأشكال.ويشر الحياني إلى أن انتشار هذه العادات النمطية من تأخير التبضع إلى الأيام الأخيرة التي تسبق بداية الشهر الفضيل، يساهم بشكل كبير في ارتفاع الأسعار، إذ وفقا لقانون السوق، فالأسعار ترتفع كلما زاد الطلب والعكس صحيح.ودعا الخبير المغربي إلى تغيير هذه السلوكيات والاقتصار على شراء الضروريات فقط في أوقات متفرقة حتى يتم وضع حد للجشع الذي بات مستشريا في وسط التجار والبائعين الراغبين في استغلال فرصة شهر رمضان وارتفاع الإقبال على المواد الاستهلاكية لتحقيق الربح السريع.قفة رمضانلمواجهة ارتفاع تكاليف المعيشة وخصوصا في رمضان، يطلق المغرب سنويا حملة تضامن لدعم الفئات الفقيرة والهشة، عبر تقديم "قفة رمضان" أو الدعم الغذائي لملايين الأسر من طرف مؤسسة محمد الخامس للتضامن التي تطلق هذه المبادرة منذ سنوات، وتقدم المساعدات الغذائية لأعداد كبيرة من السكان المعوزين خصوصا فئة الأرامل والمسنين بدون عائلة وذوي الإعاقة، خلال فترة تزيد فيها احتياجاتهم الغذائية، ومساعدتهم على تغطية الحاجيات والتخفيف من العبء المالي الذي يرهق كاهل الأسر الفقيرة. وبحسب المعلومات التي توفرها مؤسسة محمد الخامس للتضامن على موقعها الرسمي، فإن قفة رمضان الغذائية تتكون من: 10 كلغ من الدقيق الأبيض4 كلغ من السكر الأبيض1 كلغ من العدس1 كلغ من الشعرية الصينية880 غ من مركز الطماطم250 غ من الشاي 5 لترات من الزيت. كما ينخرط المتطوعون والمحسنون والجمعيات الخيرية في هذه العملية من أجل الوقوف يوميا بجانب الأشخاص المعوزين وأسر الأطفال المرضى الذي يرقدون في المستشفيات لتقديم العون والمساعدة على إفطار الصائمين.وأطلق ناشطون على منصات التواصل الاجتماعي دعوات لجمع التبرعات ومساعدة الأسر المحتاجة بالمناطق التي ضربها الزلزال وكذا الجهات التي تعاني الهشاشة والفقر وتداعيات الجفاف.موائد الرحمنويتميز الشهر الفضيل بالمغرب أيضا بكثرة القوافل التضامنية وتنظيم موائد الرحمن لإفطار الصائمين مجانا في المدن وعبر الطرقات وكذا في القرى، كما هو الحال في منطقة الحوز التي ضربها الزلزال حيث يستعد عشرات الشباب للتطوع وتقديم يد العون لمئات الأسر الفقيرة التي فقدت كل شيء خلال الزلزال المدمر الذي ضرب المنطقة قبل أشهر في وقت تتواصل فيه جهود إعادة إعمار المنطقة وإعادة الحياة إلى سابق عهدها. وكانت الحكومة المغربية قد أعلنت في وقت سابق عن توفر الأسواق المغربية على جميع المنتجات والمواد الاستهلاكية الأساسية التي يكثر عليها الطلب خلال شهر رمضان، بما في ذلك البيض والحليب والتمور وجميع المواد الغذائية، كما باشرت السلطات المحلية في مختلف المدن حملات واسعة لمراقبة الأسواق وضمان توفر السلع وعدم التلاعب في أسعارها. (المشهد)