فاجأ الاقتصاد الأميركيّ الجميع تقريبًا في العام الماضي، إذ انخفض التضخم بأكثر من المتوقع، وظل معدل البطالة بالقرب من أدنى مستوى له منذ نصف قرن عند 3.7%، كما تمكن من تجنب الركود محقّقًا نموًا يُقدّر بنسبة 2.6%، حسبما ذكر تقرير لصحيفة "وول ستريت جورنال". وعادة لا يتزامن تسارع النموّ مع انخفاض معدلات البطالة إلى جانب انخفاض التضخم، لكن بحسب التقرير، فإنّ السبب وراء هذه المرة يرجع إلى أنه منذ الجائحة، كان التضخم والنمو مدفوعين بالتقلبات في المعروض من السلع والخدمات أكثر من الطلب، "أي الإنفاق من قبل المستهلكين والشركات والحكومة". ويقول كبير الاقتصاديّين في بنك غولدمان ساكس جان هاتزيوس: "هذه الدورة مختلفة. والأزمات الطبيعية هي نموذج أفضل من الدورات التي حركها الطلب في السبعينيات، أو دورات الأعمال الأخرى في فترة ما بعد الحرب. وهذا جعل الأمر أسهل بكثير، مع تعافي العرض، للحفاظ على نموّ الإنتاج على المسار الصحيح، ولكن مع ذلك انخفض التضخم". ومن عام 2020 إلى عام 2022، لم تتمكن الشركات من تلبية الطلب الناتج عن إعادة فتح الاقتصاد بعد أسوأ مراحل الوباء، والذي غذته التحفيزات الحكومية، حيث كانوا يفتقرون إلى مكوّنات الإنتاج، وكانت النتيجة لذلك ارتفاع الأسعار. ومع ذلك، فإنّ الشركات لا تقف مكتوفة الأيدي عندما تكون هناك فرصة للاستفادة من الأسعار المرتفعة والطلب الكبير، وفقًا للرئيس التنفيذيّ لشركة كامدن بروبرتي تراست ريك كامبو، مشيرًا إلى أنّ الشركات عكفت على تعزيز الإنتاج بكل الوسائل الممكنة، من زيادة رأس المال، وإعادة تنظيم الإنتاج، وتعزيز القدرة.وأدت أسعار الفائدة المرتفعة ومستويات التوظيف الأفضل والطلب البارد، إلى تخفيف الحاجة الملحة إلى إضافة المزيد من القدرات الإنتاجية، إلا أنّ الهجمات التي يشنها المسلحون المدعومون من إيران على الشحن في البحر الأحمر، والتوقف الجديد لبعض طائرات بوينغ، تشير إلى أنّ سلاسل التوريد لا تزال معرّضة للخطر، بحسب "وول ستريت جورنال". ومع ذلك، فإنّ الانتعاش الملحوظ في العرض خلال العام الماضي، يقطع شوطًا طويلًا في تفسير السبب وراء ارتفاع الأسعار بشكل أبطأ، على الرغم من تسارع الطلب، أو حتى الانخفاض في العديد من الصناعات بالولايات المتحدة الأميركية.قطاع الخطوط الجوية نقلت شركات الطيران الأميركية عددًا أكبر من الركاب، بنسبة 13% خلال الأشهر الـ10 الأولى من عام 2023، مقارنة بالعام السابق، ومع ذلك كانت أسعار الرحلات الجوية للعام بأكمله أقل بنسبة 5%، وفقًا لمكتب إحصاءات العمل. ويرجع هذا جزئيًا إلى أنّ وقود الطائرات كان أرخص، إلى جانب أنّ القدرة المحلية نمت بسرعة أكبر من نمو أعداد الركاب، ما يشير إلى طائرات أقلّ تكدّسًا، حسبما يذكر التقرير. وعرضت شركات الطيران الأميركية أميالًا إضافية بنسبة 91% في أكتوبر الماضي، مقارنة بشهر يناير 2021، و11% أكثر مما كانت عليه قبل الوباء، وفقًا لإدارة النقل. ونجحت شركات الطيران الأميركية خلال العام 2023 من التغلب على المشكلة الرئيسية المتمثلة في نقص العمال، حيث واجهتها بعد انتهاء عمليات الإغلاق وزيادة ما يسمى بالسفر الانتقامي. ويقول رئيس قسم اكتساب المواهب في شركة طيران ساوث ويست جريج موتشيو: "بعد الخروج من الوباء، كنا مقيّدين لأول مرة في التعامل مع الأشخاص". لكن، ابتداءً من عام 2022، عقدت شركة ساوث ويست فعاليات توظيف جماعية، واقتصرت فترات التدريب والتوظيف، ونتيجة لذلك، عززت قدرتها بنحو 15% حتى سبتمبر 2023 مقارنة بالعام السابق، إذ قامت بعدد قياسيّ من الرحلات الجوية في عطلة عيد العمال من دون أيّ عوائق، وكان لدى الشركة 74000 موظف، اعتبارًا من أكتوبر، بزيادة 19000 عن نهاية عام 2021 وأعلى بكثير من مستوى ما قبل الوباء. وكان النقص في عدد الطيارين، الذين يحتاجون إلى سنوات من التدريب، يمثل خطرًا أيضًا يواجه شركات الطيران الكبرى، غير أنه في نهاية المطاف نجحت الشركات في تعيين أكثر من 12 ألف طيار في كل من عامي 2022 و2023، أي أكثر من ضعف وتيرة ما قبل الوباء، وفقًا لشركة "FAPA.aero"، وهي شركة استشارية للطيارين.قطاع النفط في أسواق النفط، لم تكن مشكلة العرض تتمثل في نقص العمالة أو قطع الغيار، بحسب "وول ستريت جورنال"، بل كانت جيوسياسية، خصوصًا مع استمرار الحرب في أوكرانيا، وانقطاع واردات النفط الروسية في إطار العقوبات الغربية. وكان من المتوقع هذه المرة من شركات النفط الأميركية، التي تتعرض لضغوط لتعزيز عوائد المساهمين، أن تقيد الإنفاق الرأسماليّ وتعطي الأولوية لتوزيعات الأرباح وإعادة شراء الأسهم، وذلك على خلاف السنوات السابقة التي كانت تقوم فيها بحفر المزيد من التكوينات الصخرية استجابة للطلب على النفط. لكن، قرر العديد من المنتجين المتعثّرين من القطاع الخاص، زيادة الإنتاج، إذ إنّ بعض الشركات، مثل شركة Elevation Resources بولاية تكساس، فعلت ذلك باستخدام منصة تنقيب واحدة. وقال الرئيس التنفيذيّ للشركة ستيفن بروت، إنه منذ الربع الرابع من عام 2022، نما إنتاج الشركة من النفط والغاز بنحو الثلث، ليصل إلى نحو 10 آلاف برميل من النفط والغاز يوميًا، وهو رقم قياسيّ للشركة. وقامت شركة "Elevation" بحفر 15 بئرًا في العام الماضي، ارتفاعًا من 12 بئرًا في عام 2022، وقال بروت: "لقد بذلنا كل ما في وسعنا من خلال برنامج الحفر الواحد هذا". وبلغ إنتاج النفط الخام الأميركيّ مستوًى قياسيًا شهريًا في سبتمبر الماضي. وخلال الأشهر الـ10 الأولى من عام 2023، بلغ متوسط الإنتاج 12.9 مليون برميل يوميًا، وهو أكثر بنحو نصف مليون مما توقعته إدارة معلومات الطاقة لعام 2023، في يناير 2022. وبحسب "وول ستريت جورنال"، استفاد المستهلكون الأميركيون أيضًا بشكل غير مباشر من زيادة إنتاج النفط الصخريّ في الولايات المتحدة، والذي لعب دورًا في استقرار الأسعار بأسواق الطاقة العالمية.قطاع الإسكان عندما انتهت فترة الإغلاق بسبب الجائحة، هرب العديد من الشباب من الأحياء الضيقة، مثل منزل والديهم، ما أدى إلى ارتفاع الإيجارات وأسعار المنازل في الولايات المتحدة. وحذر اقتصاديون وخبراء الصناعة من أنّ المعروض من المساكن الجديدة تأخر لسنوات، حيث كان البناء ضعيفًا منذ الأزمة المالية العالمية 2007-2009، مع نقص الموادّ والعمال، الأمر الذي أدى إلى عدم توافر المزيد من المساكن. غير أنه خلال العام الماضي، تحدى المطورون التوقعات، وكثفوا المشاريع للاستفادة من الإيجارات المرتفعة، بحسب ما تقول جيسي ماكونيكو من شركة جون بيرنز للأبحاث والاستشارات. قطاع الرقائق الإلكترونية كان للنقص في أشباه الموصلات أثناء الجائحة تأثير كبير وغير متوقع، ما أدى إلى ارتفاع أسعار العديد من المنتجات التي تستخدم الرقائق الإلكترونية، وخصوصًا السيارات، بحسب "وول ستريت جورنال" والتي تقول إنّ قدرة صناعة الرقائق الأميركية عززت الإنتاج والعرض خلال السنوات القليلة الماضية، لمواجهة الطلب القويّ الذي جاء بعد كورونا. وفي بداية الوباء قبل أكثر من 3 أعوام، ألغت شركات السيارات، التي توقعت جفافًا طويلًا في المبيعات، طلباتها من الرقائق الإلكترونية، كما أعاد الموردون تخصيص هذه القدرة لمنتجات أخرى مثل أجهزة الكمبيوتر الشخصية، التي حظيت بطلب مرتفع في عصر العمل والتعليم عن بعد. لكن، عندما قدمت شركات السيارات طلبات جديدة للحصول على رقائق إلكترونية، واجهت قائمة انتظار طويلة، مع انخفاض عدد السيارات المعروضة للبيع، وارتفعت الأسعار. وفي مواجهة هذا الطلب القوي، كان على صانعي الرقائق أن يقرروا ما إذا كانوا سيضيفون المزيد إلى طاقتهم الإنتاجية أم لا. لكن في الأخير قرروا توسيع الإنتاج وتعزيز القدرات الإنتاجية. ويقول فيفيك جاين رئيس عمليات التصنيع وسلسلة التوريد في شركة "Analog Devices"، التي تصنع ما يقرب من 75000 نوع من الرقائق الإلكترونية للمنتجات الصناعية والسيارات، إنه نظرًا لسوق العمل الضيق، "اعتقدنا أنّ الأمر سيكون صعبًا للغاية. لكنّ الموظفين رحبوا بخيار العمل 12 ساعة يوميًا 3 أو 4 أيام في الأسبوع، بدلًا من أسبوع العمل المعتاد المكوّن من 5 أيام". وبالنسبة لشركات صناعة السيارات، انتهى النقص في الرقائق الإلكترونية إلى حدّ كبير خلال الأشهر الماضية، وفق "وول ستريت جورنال"، ونتيجة لذلك، فإنّ المخزونات آخذة في الارتفاع، وكانت الأسعار في ديسمبر أقلّ من العام السابق.(ترجمات)