في ظل سوقين رسميين لصرف العملات الأجنبية، واصلت الليرة اللبنانية انهيارها أمام الدولار الأميركي في السوق الموازية، لتصل إلى مستوى قياسي منخفض جديد في التعاملات غير الرسمية التي يتهمها المسؤولون والخبراء بالتلاعب في قيمة العملة المحلية. وارتفع سعر صرف العملة الخضراء أمام الليرة في السوق السوداء الثلاثاء إلى أكثر من 100 ألف ليرة للدولار الواحد، وهو مستوى قياسي لم يشهده لبنان من قبل، وذلك ارتفاعا من 79.5 ألفا في مطلع مارس، بحسب ما نقلت وسائل إعلام محلية. وإلى جانب السوق الرسمية التي يبلغ فيها سعر صرف العملة الأميركية، بحسب مصرف لبنان المركزي، نحو 15 ألف ليرة، هناك سوق أخرى بين البنوك أطلقت رسميا قبل عامين على أمل تعزيز شفافية سوق الصرف واستعادة ثقة العملاء في القطاع المصرفي تحت مسمى "منصة صيرفة"، والتي بلغ فيها السعر حتى تعاملات الاثنين نحو 75.8 ألف ليرة للدولار الواحد. واتفق المسؤولون والخبراء الذين تحدثوا إلى منصة "المشهد" على أن الأزمات السياسية والاقتصادية والمالية التي يعاني منها لبنان على مدار السنوات الماضية كانت سببا في تراجع العملة المحلية، لكن ما عزز الإسراع نحو هذا الانهيار هو الفساد وتهريب الدولار وتحكم السوق الموازية. "الليرة رهينة العصابات" اعتبر وزيرة الاقتصاد والتجارة اللبناني أمين سلام أن السوق الموازية تتلاعب في سعر الدولار بشكل كبير، وتؤثر على سعر الصرف بنسبة تتراوح بين 30 و40%، قائلا في مقابلة مع قناة ومنصة "المشهد" الاثنين: "من غير المسموح أن يظل لبنان يُدار من قبل منصات غير شرعية". ويرى أستاذ الاقتصاد في الجامعة اللبنانية جاسم عجاقة، خلال حديثه مع منصة "المشهد" أن عملة بلاده أصبحت تتحكم فيها ما وصفهم بـ"العصابات"، قائلا: "الليرة اليوم رهينة عصابات. هي عصابات عابرة للمهن، هُناك تجار وصيارفة ومصرفيين، وأصحاب نفوذ. من الطبيعي أن تنهار الليرة أمام الدولار". بدوره أكد الوزير سلام أن "التدهور وانكماش اقتصاد لبنان له دور في انهيار العملة (..) كما أن سعر الدولار أصبح لا يرتفع بشكل طبيعي"، واصفا إياه بـ"الدولار السياسي" وهو يتأثر بالعوامل السياسية في البلاد. ومنذ أكتوبر الماضي، فشلت كل محاولات البرلمان اللبناني في انتخاب رئيس جمهورية جديد خلفا للرئيس السابق ميشال عون، بسبب عدم توافق الأحزاب السياسية المتنافسة، ما تسبب في تعطل تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية المتفق عليها مع صندوق النقد الدولي. ويقول المحلل الاقتصادي زياد نصر الدين في حديثه مع منصة "المشهد": "اليوم نحن نعيش على فراغ رئاسي، وهذا يؤثر سلبيا وبشكل كبير على اقتصاد لبنان". ومنذ أن توصل لبنان لاتفاق مبدئي مع صندوق النقد الدولي في أبريل 2022، بشأن برنامج إصلاح اقتصادي يحصل بموجبه على تمويل بنحو 3 مليارات دولار، لم يمض المجلس التنفيذي للصندوق قدما في هذا الاتفاق، حيث أكد مسؤولو المؤسسة الدولية في أكثر من مناسبة أن بيروت في حاجة إلى تنفيذ بعض الإصلاحات المتفق عليها. بدوره يضيف الوزير اللبناني: "الدولار أصبح اليوم عرضة لأي تحرك بالبلد، وهذا شيء مؤسف، لأن تسعير الدولار لا يتم وفق معطيات اقتصادية ومالية واضحة (..) مصرف لبنان المركزي أصبح غير قادر على التدخل، ومعظم التدخلات والحلول التي اتخذت خلال عام أو عامين الماضيين، لم تكن تضع سياسة مالية نقدية طارئة، تهدف إلى استقرار سعر الدولار. والآن أصبح مصرف لبنان غير قادر للتدخل، لأن احتياطي النقد الأجنبي وصل إلى الخط الأحمر". وتابع سلام بالقول: "هذا يعني أن مصرف لبنان لا يستطيع التدخل إلى السوق بحلول مؤقتة، ويجب أن يتم وضع إطار عام بالتعاون مع وزارة المالية، لخطة نقدية طارئة حتى يتم إيقاف هذا التلاعب". ويبلغ احتياطي النقد الأجنبي لدى مصرف لبنان حاليا نحو 10 مليارات دولار فيما تبلغ قيمة احتياطيات الذهب نحو 17 مليارا بحسب ما كشف رئيس مصرف لبنان رياض سلامة، الذي سيخضع الأربعاء 15 مارس للاستجواب في إطار تحقيق فساد يشمله ومقربين منه. استنزاف ماليمع تزايد أزمة نقص العملات الأجنبية في لبنان، تنهار ثقة المودعين في القطاع المصرفي يوما تلو الأخر، ما يدفعهم نحو اقتحام المصارف لإجبارها على استلام ودائعهم، حيث يشير نصر الدين إلى أن هناك استنزافا ماليا "مخيف" في بلده، قائلا: "هناك الكثير من الأموال التي هُربت على مستوى واسع وتتخطى 27 مليار دولار منذ بداية الأزمة". من جهته، يعتبر أستاذ الاقتصاد في الجامعة اللبنانية أن خروج العملات الأجنبية من السوق المحلية يتم عبر طرق غير مشروعة أو شبه مشروعة، وهي من تقف وراء الانهيارات المتلاحقة لليرة، قائلا: "المشكلة وراء الدولارات التي يهربها التجار خارج البلاد (..) هناك طريقتان من خلالها يقوم التجار بتهريب العملة. أولها عبر إرسال أموال من خلال القطاع المصرفي الرسمي من أجل الاستيراد من دون استيراد، حيث لا يوجد رقابة مباشرة حول إتمام العمليات التجارية التي تم تحويل الأموال بموجبها وبالتالي تخرج الأموال من دون الاستفادة منها في العمليات التجارية (..) والتقديرات تشير إلى مليارات عدة من الدولارات يتم تهريبها سنويا خارج البلاد بنفس الطريقة". أما الطريقة الثانية تتمثل في استيراد السلع والبضائع وإعادة تصديرها عبر التهريب، بحسب ما يقول عجاقة والذي يضيف: "يتم تهريب السلع إلى دول إقليمية أخرى، ويتم تحصيل الأموال عبر حسابات في مصارف خارج الدولة". ويعتبر عجاقة أن حجم الاستيراد في لبنان لا يتناسب مع الواقع، إذ يشير إلى أن قيمة ما يحتاجه بلده فعليا من السلع يتراوح ما بين 6 إلى 7 مليارات دولار، فيما يبلغ حجم الواردات يقارب الـ19 مليارا. وبحسب آخر بيانات متوفرة من إدارة الجمارك اللبنانية، سجلت الواردات السلعية نحو 17.8 مليار دولار خلال الأشهر الـ11 الأولى من العام الماضي. فيما أظهرت بيانات المصرف المركزي تسجيل عجز ميزان المدفوعات في نهاية 2022، نحو 3.197 مليارات دولار، بزيادة 63% بالمقارنة مع عام 2021. وبلغت قيمة العجز المتراكم في ميزان المدفوعات منذ نهاية 2019 حتى نهاية 2022، نحو 21.5 مليار دولار. متى يتوقف الانهيار؟ لبنان يحتاج إلى إعادة تكوين شاملة للنظام المصرفي، بحسب ما قال الوزير سلام في المقابلة، حيث أكد أن بلاده في حاجة إلى نظام مصرفي جديد يعتمد على مكافحة الفساد، ويعزز الشفافية ويضع قواعد جديدة للسرية المصرفية، فضلا عن اعتماد سياسة طويلة الأمد تتيح للمصارف إعادة أموال المودعين من دون أدنى مشكلة. فيما يرى نصر الدين أن إيقاف انهيار العملة يعتمد على انتخاب رئيس جمهورية جديد، والسير قدما نحو تشكيل حكومة تتبنى خطط وبرامج إنقاذ واضحة للاقتصاد، منتقدا في ذات السياق طريقة تعامل مصرف لبنان المركزي مع الأزمة "من خلال طباعة الليرة وشراء الدولار من السوق، وهي سياسة عشوائية لا واقعية فيها، وأدت إلى تضخم جامح (..) وذلك إلى جانب إصراره على تثبيت سعر الصرف الرسمي وضخ أكثر من 30 مليار دولار لإبقائه ثابتا". في المقابل، يعتبر أستاذ الاقتصاد في الجامعة اللبنانية أن انهيار الليرة لن يتوقف إلا "مع ضبط الاقتصاد عبر تطبيق القوانين ووقف تهريب العملة وتعزيز الرقابة على الاستيراد، مع تزايد تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر. هذه هي النقطة الأساسية والجوهرية. لا ينمو الاقتصاد إلا بالاستثمارات". ومنذ عام 2021، تراجعت الاستثمارات الأجنبية المباشرة في لبنان بشكل ملحوظ. فوق تقرير الاستثمار العالمي 2022 الصادر عن مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية، هوت تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر بنسبة 79% خلال العام قبل الماضي لتسجل 273 مليار دولار بالمقارنة مع 1.306 مليار دولار في 2020. قانون "الكابيتال كونترول" طالب الخبراء والمحللون في حديثهم بتطبيق قانون إعادة هيكلة المصارف والمعروف باسم قانون "الكابيتال كونترول"، إذ قال المحلل الاقتصادي زياد نصر الدين إن تطبيق القانون سيسهم في إيقاف تهريب الأموال. واتهم الوزير سلام أطراف أكبر من الدولة والقطاع الخاص وراء تأجيل تطبيق قانون إعادة هيكلة المصارف، حيث قال خلال مقابلته: "هناك قرار سياسي بتأجيل تطبيق القانون لأسباب غير واضحة، أكبر من الدولة وأكبر من القطاع الخاص. ونتج عن ذلك سياسات مالية أدت إلى ما نحن فيه اليوم". وتابع بالقول: "الحكومة قامت بإعداد عدد كبير من مشاريع القوانين وتم إرسالها إلى مجلس النواب منذ أكثر من عام بما فيها قانون إعادة هيكلة المصارف وقوانين إصلاحية أخرى، وهي كانت مطلوبة من صندوق النقد". بدوره اعتبر عجاقة أن هناك "عصابات لديها نفوذ كبير، لا تسمح للدولة اللبنانية بتطبيق القوانين"، قائلا: "هناك 75 قانونا غير مطبق بلبنان". (المشهد)