ما بين اقتصاد يُكافح للتعافي من إرث الإرهاب والشتات السياسي على مدار أكثر من عقدين، ونظام بنكي مهترئ بسبب الاستغلال والتحايل وفقدان الثقة، يُحاول العراق بدء حقبة جديدة من الإصلاحات المالية والمصرفية، على أمل معالجة الأزمات المعيشية المتلاحقة التي تعصف بمواطنيه. واختتم سياسيون عراقيون وأميركيون قبل أيام أحدث جولة مباحثات بينهم في سبيل الوصول إلى تفاهمات وتوافقات على استمرار دعم واشنطن للحكومة العراقية في جهود إصلاح الأنظمة المالية والمصرفية في المستقبل القريب، وذلك على خلفية القيود الصارمة التي تفرضها وزارة الخزانة الأميركية على مصارف محلية ترتبط بعلاقات تهريب مباشرة للدولار إلى دول خاضعة لعقوبات. وعقب اجتماع لجنة التنسيق العليا الأميركية-العراقية، الأربعاء الماضي، صدر بيانا مشتركا قيل فيه إن أميركا جددت دعمها للعراق من أجلب بناء القدرات الفنية وتنفيذ المعايير الدولية لحماية النظام المصرفي من الجرائم المالية وغسيل الأموال وتمويل الإرهاب، "وأكد الجانبان العزم على مواصلة العمل معا لتحديث النظام المالي من أجل تحسين أوضاع الشعب العراقي". بدوره، قال وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين في مقابلة مع قناة "المشهد" على هامش اجتماع اللجنة التنسيقية في واشنطن، إن الإجراءات الإصلاحية التي تعتزم الحكومة والبنك المركزي تنفيذهما تلقى دعما كاملا من وزارة الخزانة الأميركية، ما سينعكس بدوره على استقرار سعر صرف الدولار أمام الدينار في السوق المحلية. وعقب احتجاجات شعبية واسعة خرج إليها عراقيون بعد تراجع قيمة الدينار أمام الدولار، ليسجل الأخير في السوق الرسمي 1460 دينارا للدولار الواحد و1750 دينارا في السوق الموازية، قرر مجلس الوزراء العراقي برئاسة محمد شياع السوداني، في 9 فبراير الجاري، الموافقة على تخفيض سعر صرف الدولار أمام الدينار بناء على توصية البنك المركزي إلى 1310 دينارات. خلل القطاع المصرفي منذ بداية فبراير الجاري، يجرى مسؤولون من البنك المركزي العراقي أيضا، بما فيهم المحافظ، اجتماعات موسعة مع مسؤولي البنك الاحتياطي الفيدرالي ووزارة الخزانة الأميركية، حيث أصدر المركزي العراقي بيانا قبل أسبوع عقب اجتماع استمر لساعات طويلة على حد وصفه، قال فيه إن هناك استعدادا للعمل المشترك لمواجهة التحديات ودعم الإصلاحات الاقتصادية وبناء قطاع مصرفي رصين. ولم يكشف البنك المركزي العراقي حتى الآن عن طبيعة الإصلاحات المصرفية التي يعتزم تنفيذها خلال الفترة المقبلة، لكن خبراء اقتصاديين تحدثوا لمنصة "المشهد" كشفوا حجم الخلل الذي يعاني منه القطاع المصرفي والنظام المالي في البلاد. ويقول الخبير الاقتصادي العراقي صفوان قصي لمنصة "المشهد"، إن "النظام المالي يعاني من عدم قدرته على تتبع التحويلات المالية من وإلى البلاد، نتيجة تعامله مع بعض المصارف الوسيطة ذات الجدارة والتصنيف الائتماني المتراجع للغاية (..) كما أنه لا يتتبع أغلب العمليات التجارية المتعلقة بالمستوردين العراقيين، ما فتح الباب أمام السوق الموازية للعملات الأجنبية لتلعب دورا في التجارة الخارجية وتؤثر على أسعار صرف الدينار في السوق المحلية وترفع معدلات التضخم". وأشار قصي إلى أن المصارف العراقية أصبحت منعزلة عن النظام النقدي العالمي، وغير قادرة على توظيف السيولة التي لديها، خصوصا أن ما بين 70 إلى 80% من إجمالي الكتلة النقدية يتم تداوله خارج البنوك المحلية. بدوره اعتبر الخبير الاقتصادي علاء الفهد في حديثه مع منصة "المشهد"، أن هناك أزمة ثقة ما بين المصارف والمواطنين، مؤكدا أن "المواطنين لا يثقون في المصارف، وأغلب الكتلة النقدية سواء بالعملات المحلية أو الأجنبية يتم تداولها خارج الجهاز المصرفي". وخلال السنوات الماضية، لم يكن للنظام المالي في العراق أي دور في الأسواق الدولية، واعتمد على البنوك الوسيطة في أغلب التحويلات الخارجية لتمول عمليات الاستيراد، بحسب ما ذكر الفهد. وفي دراسة أصدرها البنك المركزي العراقي قبل أكثر من 5 أعوام بعنوان "تحليل ظاهرة الاكتناز في العراق"، فإن نحو 77% من العملة المتداولة هي خارج منظومة الجهاز المصرفي وهي في "حالة اكتناز، الأمر الذي يشكل خطرا كبيرا، من أجل توظيف الموارد ودفعها باتجاه الادخار"، ليشير إلى أن "المسألة تمثل تحديا يتعلق بالواقع الاقتصادي والأمني والسياسي". وطالب صندوق النقد الدولي من السلطات العراق، في تقرير مشاورات المادة الرابعة الصادر في مطلع فبراير الجاري، بإعادة هيكلة البنوك الكبيرة المملوكة للدولة والاستمرار في تحسين إطار مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب بهدف تعزيز استقرار القطاع المالي وتسهيل تنمية القطاع الخاص. ووفق آخر تقرير للبنك المركزي العراقي حول مؤشرات السلامة المالية، فإن المصارف الحكومية تسيطر على النظام المصرفي المحلي ويبلغ عددها 7 مصارف، حيث تشكل موجوداتها "الأصول" ما يقارب 80% من إجمالي موجودات النظام، فيما تستحوذ المصارف الخاصة والتي يصل عددها إلى 69 مصرفا في البلاد على النسبة المتبقية. الشفافية والإفصاح يأمل الخبراء الاقتصاديون في حديثهم مع منصة "المشهد" في أن تنجح جهود الحكومة العراقية والبنك المركزي للانتقال إلى نظام مصرفي جديد في إطار الإصلاحات المزمعة، مطالبين في ذات السياق بأن تكون الإصلاحات معززة للشفافية والإفصاح وتعزز اندماج الاقتصاد والأنظمة المحلية مع الاقتصاد وأنظمة النقد العالمية. وشدد قصي على أهمية أن يكون لدى البنك المركزي العراقي استراتيجية واضحة لهيكلة وتطوير المصارف المحلية ودمجها في النظامين الماليين الإقليمي والعالمي قائلا: "يحتاج النظام المالي إلى إعادة هيكلة تضمن الشفافية والإفصاح، حتى يتوافق مع معايير المالية الدولية والمحاسبية، حتى تلعب البنوك دورا كبيرا في التنمية الاقتصادية وتعزيز دور القطاع الخاص في الاقتصاد". وأشار إلى ضرورة تنحية العلاقات السياسية جانبا في المعاملات المالية المصرفية، والتأكيد علة الشفافية بما ينعكس إيجابيا على الاقتصاد المحلي، مؤكدا أن البنك المركزي ملزم بتعزيز الحوكمة في المصارف، ومطالب بتوحيد آلية واضحة فيما يتعلق بتمويل التجارة الخارجية ومراقبة المدفوعات الدولية، بما يضمن الحفاظ على النقد الأجنبي العراقي. من جهته، قال الفهد إن "النظام المالي والمصرفي في العراق يحتاج إلى إصلاحات شاملة تواكب التحولات التكنولوجية الحديثة، وتتخلى عن الأنظمة الورقية، بما يضمن جذب المزيد من الاستثمار، وإتمام ومراقبة التحويلات الخارجية بشكل مباشر دون الحاجة وساطة". واعتبر الفهد أن المباحثات العراقية الأميركية وتطبيق العراق الأنظمة المالية الحديثة مثل نظام سويفت، سيضمن اندماج المصارف العراقية في النظام المالي العالمي ويعالج التشوهات الكبيرة في الاقتصاد العراقي، مشيرا إلى أن البنك المركزي حاول تطبيق بعض الإصلاحات في هذا الشأن منذ سنوات لكنه لم ينجح. وأضاف: "التكامل مع الأنظمة الدولية، سيسهم يعزز من الثقة في النظام المالي والقطاع المصرفي نظرا لامتثالهم إلى المعايير الدولية". ومنذ العام الماضي، ألزم البنك المركزي العراقي جميع المصارف العاملة في البلاد بإجراء التحويلات عبر منصة "سويفت" الإلكترونية التي تتيح، للبنك المركزي الأميركي تتبع التحويلات. حيث بموجبه كشفت الحكومة العراقية عن تهريب ملايين من الدولارات خارج البلاد بشكل يومي بمستندات استيراد مزورة.(المشهد)