في تجمّع سنوي ببلدة جاكسون هول، اعتاد مجلس الاحتياطي الفدراليّ الأميركيّ الدعوة إليه منذ عام 1978، أشار كبار صنّاع السياسة النقدية بالعالم، إلى إصرارهم على محاربة التضخم الجامح، من خلال مواصلة رفع أسعار الفائدة، غير أنّ حديثهم هذه المرة اتسم باستعراض التحديات التي تواجه هذه السياسة في المستقبل القريب. وقدّم رئيس مجلس الاحتياطي الفدرالي الأميركي (البنك المركزي) جيروم باول، ورئيسة المصرف المركزيّ الأوروبيّ كريستين لاغارد، خطابات رئيسية الجمعة الماضي، سلطوا من خلالها الضوء على التحديات التي يواجهونها، في تحديد ما إذا كان يجب عليهم تمديد رفع أسعار الفائدة التي بدأت في العام الماضي. وقال جيروم باول، إنّ المجلس قد يتعين عليه الاستمرار في رفع أسعار الفائدة، من أجل السيطرة على التضخم، مشيرا إلى أنّ صنّاع السياسة في المركزي الأميركي "سيتحركون بحذر، بينما نقرر ما إذا كنا سنستمر في التشديد النقدي". لكنّ باول عاد ليقول إنّ مجلس الاحتياطيّ الفدرالي، لم يتوصل بعد إلى أنّ سعر الفائدة القياسي مرتفع بما يكفي حاليا، للتأكد من عودة التضخم إلى الهدف البالغ 2%، "مستعدون للاستمرار في رفع أسعار الفائدة إذا كان ذلك مناسبا، ونعتزم إبقاء السياسة عند مستوى تقييدي، حتى نتأكد من أنّ التضخم يتراجع بشكل مستمر إلى هدفنا". بدورها استعانت كريستين لاغارد التي كانت يوما مديرا تنفيذيا لصندوق النقد الدولي، قبل أن تشغل منصب رئيس البنك المركزي الأوروبي، بمقولة الفيلسوف الدنماركي سورين كيركغور: "لا يمكن فهم الحياة إلا بالرجوع إلى الوراء. ولكن يجب أن نعيش بالنظر إلى الأمام"، خلال خطابها الذي أكدت فيه على ضرورة استمرار رفع أسعار الفائدة، وإنشاء أطر جديدة نحو صنع سياسات قوية في ظل حالة عدم اليقين، محذّرة في الوقت نفسه من انعكاس استمرار التضخم على الاقتصاد العالمي.ومنذ مارس 2022، رفع مجلس الاحتياطي الفدراليّ أسعار الفائدة من مستوى يقترب من الصفر لأعلى مستوى في 22 عاما بين 5.50% و5.75%. فيما رفع البنك المركزي الأوروبي الفائدة الرئيسية إلى 4.25%، بعدما كانت عند مستويات دون الصفر -0.5% قبل أكثر من عام تقريبا.الصقورومع إصرار صنّاع السياسة النقدية في أميركا وأوروبا، على ضرورة استمرار رفع الفائدة لمكافحة التضخم، يرى اقتصاديون تحدثوا مع منصة "المشهد"، أنّ هذا التوجه سيُدخل الاقتصاد العالميّ إلى ركود اقتصادي ناعم لكنه أفضل من التضخم. ويجري تعريف الركود عموما بأنه ربعان متتاليان من الانكماش، أي أنّ النمو الاقتصادي يسجل قيما سالبة على مدار النصف عام. ومن المعروف أنّ السيطرة على التضخم عبر أدوات السياسة النقدية، والتي في مقدمتها رفع أسعار الفائدة، يرافقه تباطؤ للنمو الاقتصادي وصولا حتى الركود، بحسب ما يقول الخبير الاقتصادي ريان ليمند خلال حديثه مع منصة "المشهد"، مضيفا أنّ هذا "ضروري ليخفف من زيادة أسعار السلع". ويؤكد لينمد الذي يؤيد دخول الاقتصادات في حالة ركود من أن يستمر التضخم، أنّ "واضعي السياسيات يفضلون هذا التباطؤ والركود أيضا عن التضخم، لأنّ ارتفاع الأسعار يؤثر على الجميع بشكل عميق للغاية ومتساوٍ على عكس التباطؤ الاقتصادي الذي له تأثيرات على شريحة معينة والتي تفقد وظائفها". ودافع ريان ليمند وهو أيضا الرئيس التنفيذي لشركة "نيو فيجن"، لإدارة الثروات في دبي، عن وجهة نظره من خلال الإشارة إلى الاضطرابات الاجتماعية التي ترافق ارتفاع مستويات التضخم في البلدان، قائلًا: "التضخم يؤثر في القدرة الشرائيّة وتأثيراته السلبية على الاقتصاد، أكبر من الركود الذي يمكن السيطرة عليه عبر السياسات النقدية والماليّة التيسيرية". ورافق ارتفاع التضخم في العديد من الدول الأوروبية خلال العام الماضي على خلفية الأزمة الروسية الأوكرانية، احتجاجات وإضرابات عماليّة واسعة في كبرى المدن والتي تطالب بزيادة الأجور والرواتب، مع تراجع القوة الشرائيّة وارتفاع التضخم في القارة الأوروبية إلى أعلى مستوى عند 10.6%، قبل أن يتراجع في يوليو الماضي إلى 5.3%. ويؤيد المحلل الاقتصادي والمدير التنفيذي لشركة "VI Markets" أحمد معطي، توجهات صنّاع السياسة بشأن مواصلة رفع أسعار الفائدة خلال حديثه مع منصة "المشهد"، قائلا: "الأزمة التي أدت إلى هذا التضخم لم تنتهِ بعد"، في إشارة إلى الحرب الروسية الأوكرانيّة التي اندلعت في فبراير 2022. ويضيف معطي: "نحن أمام تضخّم عنيد. السياسة النقدية للاحتياطي الفدرالي ليست السبب وراء الدخول في ركود اقتصادي محتمل"، مشيرا إلى أنّ "البنوك المركزية لن تتوقف عن محاربة التضخم إلا إذا كانت هناك مؤشرات قوية على دخول الاقتصاد العالمي في ركود". واستبعد المحلل الاقتصاديّ أن يدخل الاقتصاد الأميركي في حالة ركود، وهو الأمر الذي أكده رئيس الاحتياطي الفدرالي جيروم بأول، خلال خطابه من خلال الإشارة إلى مرونة اقتصاد الولايات المتحدة، "وأنّ تسارع النمو الاقتصادي من شأنه أن يؤدي إلى المزيد من رفع أسعار الفائدة". وتسارع نمو الاقتصاد الأميركي خلال الربع الثاني من 2023 ليسجل 2.4%، وهي وتيرة أعلى من التوقعات التي كانت تشير إلى نمو بنحو 1.8% فقط، وهي وتيرة أعلى من التوقعات التي كانت تشير لنمو بنسبة 1.8%، فيما كان النمو خلال الربع الأول بنسبة 2%. الحمائم وعلى النقيض من معسكر الصقور، هناك "الحمائم" الذين يفضلون السياسة النقديّة اليسيرة، ويحذرون من الدخول إلى الركود، حيث يقول الخبير الاقتصادي إسماعيل بن دويسة: "الركود الاقتصاديّ لا يمكن السيطرة عليه بسهولة، لأنّ تأثيراته قد تستمر لفترة طويلة المدى، خصوصا على توجهات الاستثمار والتوظيف في الاقتصادات". ويضيف بن دويسة: "هناك بعض الاقتصاديين الذين يؤمنون بفكرة الركود البسيط ومن بعده يعود الاقتصاد إلى الارتفاع مرة أخرى. لكن في الحقيقة هذا الركود قد يخرج عن السيطرة، خصوصا في دولة مثل الولايات المتحدة التي قد تبعث أيّ مؤشرات للركود بحالة ذعر في الأسواق". ويكمن الخطر الأكبر وراء انكماش الاقتصاد في تحوله إلى ركود مصحوب بتضخم، بحسب ما يقول بن دويسة، مشيرا إلى أنّ "التضخم المرتفع والمتحكم فيه، أفضل على المدى المتوسط، حتى يمكن الوصول به إلى مستويات أقل حدّة ومن ثّم إلى الهدف المحدد". ولا يعارض بن دويسة استخدام السياسة النقدية لمحاربة التضخم "وهي إحدى الأدوات الرئيسية أمام صنّاع السياسة. لكن يجب أن يكونوا حذرين بشكل كبير، واضعين في اعتبارهم المؤشرات الأساسية التي تسبق الركود بأشهر، والتي في مقدمتها معدلات البطالة والتوظيف". وتابع قائلا: "التضخم المتحكم فيه أفضل من الركود، رغم آثاره السلبية من ضعف القدرة الشرائية للمستهلكين، وتضرر الطبقات الهشّة".وعلى عكس الولايات المتحدة وأوروبا، تواصل الأسواق الرئيسية في آسيا وفي مقدمتها الصين واليابان، السياسات النقدية اليسيرة لدعم الاقتصاد، خصوصا بعد تعثّر انتعاش الاقتصاد الصيني ثاني قوة اقتصادية بالعالم. وفي كلمته خلال تجمّع جاكسون هول، وصف محافظ بنك اليابان المركزي كازو أويدا تباطؤ الاقتصاد الصيني بـ"المخيّب للآمال"، مشيرا إلى أنه ملتزم بإطار التيسير النقدي الحالي، "حيث لا يزال التضخم الأساسيّ أقلّ قليلا من هدفنا البالغ 2%".أهداف التضخم وما بين معسكر "الصقور" الذين أعلنوا منذ أكثر من عام حربهم على التضخم، و"الحمائم" الذين يؤيدون هذه الحرب لكن بحذّر لتجنّب الركود، يجادل بعض الاقتصاديين بشأن أهداف التضخم التي تضعها البنوك المركزية الرئيسية في العالم، إذ هناك من ينادي بضرورة زيادة هذا الهدف الذي يعتبرونه متشددا للغاية. غير أنّ جميع الخبراء الذين تحدثوا مع منصة "المشهد"، يرون أنه هدف طبيعي. ويستهدف كل من الاحتياطي الفدرالي الأميركي والبنك المركزي الأوروبي، وبنك إنجلترا المركزي، الوصول بمعدلات التضخم إلى 2%، وهي بعيدة عن المستويات الحالية البالغة 3.2% بأميركا، و5.3% في منطقة اليورو، و6.9% في بريطانيا. ويعتبر الخبير الاقتصادي ريان ليمند، أنّ "هدف التضخم عند 2%، ليس بالأمر الصعب أو المبالغ فيه. وهو الهدف الذي تضعه أميركا وأوروبا منذ عشرات الأعوام"، مشيرا إلى أنه "الهدف الطبيعي لتضخم الأسعار ومتعارف عليه بين الاقتصاديين". بدوره، يعتبر المحلل الاقتصادي أحمد معطي، أنّ "إصرار صنّاع السياسة النقدية على هذا الهدف أمر صحي للغاية، حتى لو سيتأخر تحقيقها على المدى المتوسط"، قائلا: "لهذا من المتوقع استمرار السياسة النقدية المتشددة حتى نهاية النصف الأول من عام 2024. وعقب ذلك قد يمكننا الحديث عن تخفيض لأسعار الفائدة". ويضيف معطي: "بيانات التوظيف والإنفاق الاستهلاكي في الولايات المتحدة قوية جدا. حتى أنّ هناك أيضا ارتفاعات بأسعار السيارات وإيجارات المنازل. وكل هذا يؤكد على أهمية استمرار السياسة النقدية المشددة، للوصول أو حتى الاقتراب من هدف التضخم المحدد". من جهته، يرى الخبير الاقتصادي إسماعيل بن دويسة، أنّ "البنوك المركزية لا تزال بعيدة عن هدف التضخم، والذي لا يمكن تحقيقه على المدى القريب، بل يمكن الوصول إليه على المديين المتوسط والبعيد". ويقول بن دويسة: "كل تلميحات الفدرالي الأميركي تشير إلى استمرار السياسة النقدية المتشددة خلال الأشهر المقبلة، لكنها ستكون أقل حدّة مقارنة بالفترة الماضية"، مشيرا إلى أنّ الفائدة "لا يتوقع أنّ تتراجع بين ليلة وضحاها، لكن قد يبقي عليها صنّاع السياسة من دون تغيير لفترة طويلة حتى مع تباطؤ وتيرة التضخم". وعلى الرغم من أنّ هناك حاجة إلى الاستمرار في السعي لتحسين الرؤية على المدى المتوسط، يجب أن يكون هناك وضوح بشأن حدود ما يعرف صنّاع السياسات وما يمكن تحقيقه، بحسب ما ذكرت كريستين لاغارد، والتي اختتمت كلمتها قائلة: "إذا كنا نريد الحفاظ على مصداقيتنا مع الجمهور، سيتعين علينا التحدث عن المستقبل بطريقة تلتقط بشكل أفضل عدم اليقين الذي نواجهه".(المشهد)