تتوالى الزيارات واللقاءات بين مسؤولين تونسيّين ونظرائهم في دول المعسكر الشرقي في الفترة الأخيرة، ما يُؤشّر لتحوّل في سياسات تونس الخارجية.ويقول مراقبون إنه يكشف عن رغبة تونسية في التوجه شرقًا، في ظل توتر علاقاتها مع شركائها الغربيّين.واستقبلت تونس في الأشهر الأخيرة عددًا من وزراء خارجية دول كبرى بالمعسكر الشرقي.في السياق، يبدأ اليوم الأحد وزير الخارجية الصينية وانغ يي زيارة رسمية لتونس تمتدّ على يومين.وقالت وزارة الخارجية التونسية إنها تأتي في إطار الاحتفال بمرور 60 عامًا على تفعيل العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، وأيضًا في إطار جولة إفريقية ستشمل كلًا من مصر والتوغو والكوت ديفوار.هذا التقليد دأبت عليه الصين منذ سنوات، يتمثل في أن تكون أول زيارة خارجية لعميد الدبلوماسية الصينية في العام الجديد إلى القارة الإفريقية، في تأكيد واضح من الحكومة الصينية على الأهمية الاستراتيجية التي توليها إلى إفريقيا وإلى بلدانها. ويأتي استقبال تونس للوزير الصينيّ بعد أسابيع من زيارة قامت بها وزيرة الخارجية الإندونيسية بريتنو مرصودي، وسبقتها زيارة لوزير الخارجية الروسية سيرغي لافروف في ديسمبر الماضي، وذلك بعد 3 أشهر من زيارة سابقة لوزير الخارجية التونسية نبيل عمار إلى موسكو. تونس والصين وبات التنسيق بين تونس ودول "المعسكر الشرقي" لافتًا في الفترة الأخيرة سواء على مستوى المواقف من قضايا دولية أم على مستوى التعاون الاقتصادي.وتشاطر تونس الصين وروسيا مواقف قضايا عدة ومن بينها حرب غزة، وبدا ذلك في مواقف كثيرة مشتركة آخرها الموقف المعلن على هامش زيارة لافروف لتونس نهاية عام 2023. في المقابل توطدت العلاقات الاقتصادية بين الطرفين وكان الحضور الصينيّ في تونس عنوانًا لهذا التطور استنادًا لما تكشفه الأرقام والبيانات الرسمية. وارتقت المبادلات التجارية بين الصين وتونس، حتّى أنها صارت الشريك التجاريّ الرابع لها بعد كل من فرنسا وإيطاليا وألمانيا وهم شركاؤها التقليديون. والأسبوع الماضي أعلنت وزارة التجهيز التونسية عن إسناد مشروع صفقة أشغال الجسر الرئيسي، الرابط بين" الطريق السيارة أ4" ومدينة بنزرت، لشركة "سيشوان" الصينية بكلفة تزيد عن 200 مليون دولار، وهو واحد من المشاريع الكبرى للبنية التحتية في تونس. كما مثلت الصين إلى غاية سنة 2019، أهم سوق آسيوية للسياحة في تونس، وبلغ عدد السيّاح الصينيّين الذين زاروا تونس حينها، 32 ألف سائحًا قبل أن يتراجع العدد بسبب جائحة كوفيد- 19، فيما أعلنت السلطات التونسية قبل أسابيع عن إعفاء السياح الصينيّين من تأشيرة الدخول لتونس.في المقابل كانت موسكو التي ارتقى حجم مبادلاتها التجارية خلال النصف الأول من العام الماضي، إلى نحو 1.2 مليار دولار قد أعلنت عن عزمها على مساعدة تونس في أزمة الحبوب عبر زيادة حجم صادراتها من هذه الموادّ لها. تونس والغربوالحديث عن توجه تونسيّ شرقًا كبديل عن الغرب كان مطروحًا منذ فترة وذلك، في ظل توتر العلاقة بين تونس وشركائها التقليديّين، بسبب ملفات كثيرة من بينها الهجرة غير النظامية والمفاوضات مع صندوق النقد الدوليّ وملف الحريات في البلد. وتقول المحللة الاقتصادية إيمان الحامدي، إنّ هناك بوادر لتوجه تونسيّ شرقًا، مقابل تخفيف الارتباطات الاقتصادية مع الشريك الغربي. وتضيف في حديث مع منصّة "المشهد"، أنّ الصين تسعى لتكثيف حضورها في تونس في مجالات كثيرة كان الشركاء الغربيون يسيطرون عليها لسنوات طويلة، مثل الزراعة والتكنولوجيا والخدمات. وتحضر الصين في تونس ضمن كثير من المجالات على غرار الصحة والاقتصاد الأخضر وتكنولوجيات الاتصال ومجابهة التغيّرات المناخية.مبادرة "الحزام والطريق"وفي عام 2018 وقّعت تونس على مذكرة تفاهم بخصوص الانضمام لمبادرة "الحزام والطريق". وتزيد الحامدي أنّ هناك تغييرًا كبيرًا في السياسات التونسية، تقوم على تنويع الشركاء وفك الارتباط مع المعسكر الغربي، مضيفة، "هذا تحول ثابت لا يمكن إنكاره والتشجيع الروسيّ والصينيّ لتونس للمضي في هذا السياق واضح". وتشير إلى تحولات في السياسات الدولية تميزت ببروز دور المعسكر الشرقي، وتكثيف حضوره في دول كثيرة، ووفق رأيها "لن تكون تونس بمعزل عنها". لكنها في المقابل، تعتبر أنّ التوجه نحو الشرق لن يفك ارتباط تونس بالمعسكر الغربي، وخصوصًا بأوروبا التي تربطها بها مصالح اقتصادية مهمة، مشددة على أنّ "هناك توازنات تفرض نفسها ولا يمكن تجاهلها". تنويع الشركاء ويأتي تطور العلاقات بين تونس والمعسكر الشرقي، في وقت تشهد فيه علاقاتها مع دول المعسكر الغربيّ توترًا بسبب ملفات كثيرة، من أبرزها ملف صندوق النقد الدولي، وملف الحريات الذي اعتبر الرئيس سعيّد الحديث عنه من قبيل التدخل في شؤون بلده الداخلية. ولم تنجح تونس رغم مضيّ أكثر من سنة على توقيعها مذكرة تفاهم أولية مع صندوق النقد الدولي، في الوصول إلى اتفاق نهائيّ يمكنها من الحصول على قرض بقيمة 1.9 مليار دولار من أجل تعبئة مواردها والخروج من أزمتها الاقتصادية. وفي السياق أُلغيت زيارة كانت مبرمجة بداية ديسمبر الماضي لوفد من المؤسسة الدولية لتونس، ما اعتبره كثير من المراقبين مؤشرًا على انسداد المفاوضات، في وقت ذهبت فيه تونس لإعلان موازنة للبلاد خالية لأول مرة من موارد قرض الصندوق. في المقابل كانت تونس عرضة للضغط الأوروبي، خصوصًا في العامين الأخيرين، وذلك بعد الأحداث الاستثنائية لـ25 يوليو 2021 ثم على هامش تعمّق أزمة ملف الهجرة غير النظامية التي سعى من خلالها الاتحاد الأوربيّ لدفعها نحو القبول بلعب دور حارس المتوسط. لكنّ هذا التوتر بحسب المحللة السياسية ضحى طليق، لا يؤثر على علاقاتها بشركائها الغربيّين ولا يعني نيّتها قطع علاقاتها معهم، بقدر ما يعني "سعيها لتنويع علاقاتها والبحث عن شراكات جديدة تفتح أمامها آفاقًا أخرى"، وفق تصريحها لمنصّة "المشهد". وتعتبر طليق أنّ تونس ما زالت تحافظ على زخم علاقاتها مع الغرب، رغم التوتر الذي يظهر أحيانًا بسبب بعض الملفات، "وهذا أمر طبيعي بالنظر لعراقة العلاقات بين الطرفين والارتباطات الكبيرة بينهما". لكنها في الوقت نفسه ترى أنّ تونس "تسعى لأن تجد فرصًا جديدة قد تمنحها بدائل أخرى بعيدًا عن الاقتصار على شريك واحد". وتشدد على أنّ زيارة الوزير الصينيّ لتونس هي زيارة عادية تدخل في إطار سعي الدولة الآسيوية لتوطيد حضورها في إفريقيا التي هي سوق استهلاكية مهمّة بالنسبة لها وقارة تمتلك ثروات كبيرة. ووفقًا لبيانات التجارة التونسية تعتبر أوروبا الشريك الاقتصاديّ الأول لتونس، ويبلغ عدد الشركات الأوروبية المستثمرة فيها أكثر من 3000 شركة توفر أكثر من 315 ألف وظيفة، فيما تمثل الاستثمارات الأوروبية المباشرة 49% من مجموع الاستثمارات الأجنبية.(المشهد)