يبدو أن السوق الموازية لصرف العملات الأجنبية داخل مصر في طريقها للاندثار أو على الأقل تحجيم قدراتها خلال المرحلة المقبلة، وتجلى ذلك في حالة الارتباك والغموض التي باتت تسيطر على هذه السوق خصوصا بعد إعلان الحكومة المصرية مؤخراً عن توقيع أكبر صفقة استثمار مباشر في تاريخ البلاد مع دولة الإمارات العربية المتحدة لتنمية منطقة رأس الحكمة المطلة على ساحل البحر المتوسط شمال غرب مصر، والتي تصل استثماراتها الإجمالية إلى 160 مليار دولار، وستحصل بموجبها الحكومة المصرية على سيولة بقيمة 35 مليار دولار على دفعتين.وعلى وقع هذه الصفقة الاستثمارية التي وصفت بالأكبر داخل مصر وخلال اليومين الماضيين زاد المعروض من الدولار بشكل لافت داخل السوق السوداء، مما تسبب في تراجع أسعار صرف الدولار في هذه السوق بشكل كبير، وبلغ الدولار في التعاملات الأخيرة مستويات تتراوح ما بين 45 و47 جنيهاً، من دون وجود تنفيذ فعلي وسط تفاقم حالة القلق من استمرار موجة النزف، الأمر الذي أصاب المتعاملين في السوق السوداء وتجار العملة بصدمة كبيرة.وفي تقرير نُشر مؤخراً، توقع بنك غولدمان ساكس أن يشهد الجنيه المصري رسمياً تخفيضاً نسبياً خلال الفترة المقبلة مع تراجع حاد في أسعار السوق الموازية للصرف في البلاد، متوقعاً أن يوفر الاستثمار الإماراتي فرصة جيدة لحل أزمة النقد الأجنبي داخل مصر، وذكر التقرير أن صافي التدفقات الدولارية الجديدة التي تدخل لمصر قبل نهاية النصف الأول من 2024 جراء هذا الاتفاق فقط يصل إلى 24 مليار دولار وهو ما يخفف الضغط على الجنيه في الأجل القصير ويعزز فرص مصر مع قرب إعلان الاتفاق مع صندوق النقد الدولي في توفير سيولة أجنبية لسد فجوات التمويل خلال الأربع سنوات المقبلة.السعر العادل للدولار أقل من 40 جنيهاوتشهد السوق السوداء نزيفاً حاداً وخسائر طائلة منذ الإعلان عن صفقة رأس الحكمة الأسبوع الماضي وحتى كتابة سطور هذا التقرير، حيث وصل سعر الدولار إلى 45 جنيهاً بعد أن كان يسجل 63 جنيهاً قبل الإعلان عن الصفقة مباشرة، أي فقد نحو 18 جنيهاً من قيمته في هذه الفترة القصيرة جداً. وفي مقابلتها مع منصة "المشهد"، أوضحت الخبيرة المصرفية سهر الدماطي أن تراجع الدولار في السوق السوداء أمر طبيعي، لأن تسعير الورقة الخضراء في هذا السوق مبالغ فيه وغير واقعي ويرجع إلى زيادة المضاربات الوهمية بين كبار المتلاعبين بالسوق السوداء استغلالا للأوضاع الاقتصادية التي تمر بها مصر وعدم قدرة البنوك على تدبير النقد الأجنبي لكافة العملاء. وأضافت الدماطي أنه حتى السعر المعلن الآن في السوق السوداء وهو 45 جنيها غير حقيقي ومبالغ فيه، لأن السعر العادل للدولار أقل من 40 جنيها، مشيرة في الوقت ذاته إلى أن إجراءات الحكومة المصرية الفاعلة في الاستثمار هي حجر الزاوية التي ساهمت في انهيار الدولار بشكل حاد، حيث أسهمت بشكل مباشر في تدفق العملة الصعبة على الاقتصاد المصري الذي واجه صدمات كبيرة خلال السنوات القليلة الماضية.أبرز أسباب تراجع دولار السوق السوداءوتعد السوق الموازية مجرمة قانونا داخل الدولة المصرية وذلك وفق المادة 222 لسنة 2020 من قانون البنك المركزي المصري، ويعاقب بالحبس كل من تداول أو تعامل بالأموال الأجنبية خارج السوق المصرفية ويتم مصادرة تلك الأموال.وترى الدماطي أن تفعيل القانون خلال الفترة الماضية على المتداولين بالدولار خارج نطاق السوق المصرفي والقبض على كبار تجار العملة، ساهم في تحجيم السوق الموازية حتى جاءت الاستثمارات الكبرى التي أعلنتها الحكومة مؤخراً بالشراكة مع دولة الإمارات لتطوير رأس الحكمة، والتي كانت في غاية الأهمية بالنسبة للاقتصاد المصري فهي بمثابة مورد اقتصادي دائم للدولة.ومنذ فترة ليست بالقليلة تواجه مصر ضغوطا من شح النقد الأجنبي خصوصا الدولار الأميركي وانتشار السوق السوداء لتجارة العملة، بسبب التبعات السلبية لجائحة كورونا والحرب الروسية الأوكرانية وتداعياتها في خروج استثمارات أجنبية غير مباشرة بقيمة 22 مليار دولار خلال النصف الأول من العام قبل الماضي، بالإضافة إلى تأثيرات الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة والتي ما تزال مستمرة حتى اليوم. لكن ومع إتمام صفقة رأس الحكمة وتدفق مليارات الدولارات على مصر بدأ سؤال يظهر في الأفق على ألسنة الكثيرين مفاده هل اقتربت السوق السوداء من الاختفاء؟ وفي هذا الإطار يجيب أستاذ التمويل والاستثمار بجامعة القاهرة الدكتور هشام إبراهيم قائلاً إن هذه السوق لن تختفي نهائيا في هذا التوقيت لكنها ستتلاشى شيئاً فشيئاً بعد دخول تدفقات نقد أجنبي أخرى من مصادر متعددة وقدرة البنوك على تدبير الدولار وغيره من العملات الأجنبية الأخرى لطلبات الاستيراد والعملاء والشركات دون قيود أو شروط، وحال تفعيل هذه الإجراءات سيكون الأمر بمثابة ضربة قاصمة لسعر الدولار في السوق الموازية.مكاسب تنتظر الاقتصاد المصريووفقا لأستاذ التمويل والاستثمار فإن القضاء على السوق السوداء للعملات الأجنبية أو على الأقل استمرار تراجع سعر صرف الدولار بين المتعاملين فيها سينعكس بشكل إيجابي على الاقتصادي الذي واجه تحديات عديدة مؤخراً، الأمر الذي قد يسهم في خفض معدلات التضخم. موضحاً أن توافر السيولة الدولارية داخل البنوك سيعزز من قدرة الدولة على القضاء على السوق الموازية لأسعار صرف العملات ووقف المضاربات وعمليات الدولرة، إضافة إلى تمكينها من توفير حاجات ومستلزمات الإنتاج للقطاعات الصناعية والاستيرادية المختلفة.ويرى إبراهيم أنه بعد دخول المليارات من النقد الأجنبي لمصر، وتوافرها بالبنوك ستصبح جاهزة لتلبية احتياجات المستوردين والصناع والمنتجين وبالسعر الرسمي للدولار من أجل استيراد السلع الإستراتيجية وخامات ومستلزمات الإنتاج، وبالتالي سيؤدي هذا إلى خفض تكلفة الإنتاج بدلاً من أن يقوم المستوردون باستيراد هذه الخامات بدولار السوق السوداء بالسعر المرتفع، وهذا يؤدي في النهاية لزيادة الإنتاج وزيادة المعروض من السلع بالأسواق وبأسعار مخفضة مما يسهم في خفض معدلات التضخم خلال الفترة المقبلة.تراجع حاد في سوق الذهبومع توالي الخسائر التي طاردت أسعار الدولار في السوق السوداء تكبدت سوق المعدن النفيس هي الأخرى خسائر حادة حيث انخفض سعر الجرام 21 الأكثر تداولا وانتشاراً في مصر بنسبة 26.3% فاقداً نحو 1055 جنيهاً (34.19 دولارا) بعدما تراجع سعره من مستوى 4005 جنيهات (129.8 دولارا) إلى نحو 2950 جنيهاً (95.6 دولارا) في التعاملات الأخيرة.في هذا الصدد يقول رئيس الشعبة العامة للذهب في اتحاد الغرف التجارية بمصر هاني ميلاد إن أسعار الذهب بالأسواق المحلية شهدت حالة من التراجع الكبير منذ بداية تعاملات الأسبوع الماضي، مؤكداً أن صفقة رأس الحكمة أفادت الاقتصاد المصري، وكانت سبباً مباشراً في التراجع الكبير لسعر دولار السوق السوداء وذلك لتوفيرها سيولة دولارية كافية لتعزيز الفرص، ولإنهاء أزمة وجود سعرين للدولار بالسوق ووقف المضاربات.ونصح ميلاد المواطنين المصريين الراغبين في اقتناء الذهب بالشراء في الوقت الحالي لكون أسعار المعدن النفيس في الفترة الحالية تشهد استقرارا نسبياً، وتوقع ميلاد بأن تشهد الأيام المقبلة مزيداً من الهبوط في الأسعار، خصوصا مع قدوم شهر رمضان و"المواطن في هذه الفترة أولوياته مختلفة ولا يتجه إلى شراء الذهب"، وأكد ميلاد أن إحكام الرقابة على السوق تسبب في هذه الحالة من الاستقرار التي تشهدها السوق، في وقت اختفت فيه المضاربات إلى حد كبير.ومنذ إعلان الحكومة المصرية عن إتمام صفقة رأس الحكمة مع الإمارات وتدفق مليارات الدولارات على المصارف المصرية، تشهد السوق الموازية للعملات الأجنبية في مصر تراجعا كبيرا وصف بالانهيار، وذلك بعد تراجع سعر الدولار إلى 45 جنيها بعد أن وصل لأعلى مستوى له خلال الأسابيع القليلة الماضية 73 جنيهاً، وهو الأمر الذي قوبل بترحاب واسع لدى الأوساط الاقتصادية التي توقعت حدوث طفرة للأوضاع الاقتصادية في مصر خلال الفترة المقبلة.(المشهد)