بدا واضحا أنّ رئيس مجلس الاحتياطي الاتحادي (البنك المركزي الأميركي) جيروم باول، يضع على عاتقه هدف كبح جماح التضخم، ومنع أيّ فرصة لصعوده مجددا، من دون النظر إلى المخاوف المتعلقة بحدوث ركود اقتصادي، ليؤكد بذلك أنه يطمح كغيره من محافظي البنوك المركزية إلى أن يُعرف باسم "صقر التضخم". وأكد بأول في بيان صحفي عقب رفع الفائدة إلى أعلى مستوى منذ نحو 22 عاما هذا الأسبوع، أنّ "عملية خفض التضخم لا تزال تحتاج إلى وقت طويل". ورفع مجلس الاحتياطي الاتحادي الأربعاء معدل الفائدة الرئيسي بنحو 25 نقطة أساس، إلى ما بين 5.25% و5.5%، ملمحا في السياق ذاته إلى زيادة جديدة خلال وقت لاحق من العام، حيث ذكر جيروم باول أنّ التضخم ما زال "أعلى بكثير" من هدف المصرف المركزي، "وما زالت عملية خفض التضخم إلى هدف 2% تحتاج إلى وقت طويل". وبحسب صندوق النقد الدولي، غالبا ما يطمح محافظو البنوك المركزية إلى أن يُعرفوا باسم "صقور التضخم"، من خلال تبنّي سياسات نقدية متشددة تهدف إلى السيطرة على التضخم عبر رفع أسعار الفائدة. وبدأ باول حملته لكبح التضخم منذ مارس العام الماضي، ردا على ارتفاع الأسعار، وقام بزيادة الفائدة من مستوى كان قد اقترب من الصفر قبل أكثر من 15 شهرا، ما شبّهه مراقبون وخبراء بما حدث سابقا، حين أعلن الرئيس الأميركي الأسبق جيرالد فور في عام 1974 الحرب على التضخم، واعتبره العدو رقم 1 للولايات المتحدة. لهجة متشددة جاء رفع أسعار الفائدة من قبل مجلس الاحتياطي الفيدرالي، متّسقا مع توقعات المحللين كافة، والذين استندوا بشكل أساسي إلى ما ذكره في يونيو الماضي، أنه يتوقع رفع معدلات الفائدة مرتين خلال هذه السنة، وذلك على الرغم من تراجع التضخم منذ ذلك الحين إلى 3%، وهو أدنى مستوى خلال عامين. ورفض رئيس مجلس الاحتياطي الاتحادي التفاؤل بشأن مستوى التضخم المسجل في يونيو، ووصفها بأنها "بيانات شهر واحد فقط"، لهذا يقول كبير الاقتصاديين لدى مؤسسة "كابيتال إيكونوميكس" بول أشوورث، في مذكرة بحثية صدرت الأربعاء: "احتفظ البنك المركزي الاتحادي بلهجته المتشددة بشأن أسعار الفائدة في الاجتماعات المتبقية خلال العام الجاري. ولا يزال المسؤولون يميلون إلى استمرار رفع سعر الفائدة بمقدار 25 نقطة أساس، خلال الفترة المتبقية من العام". ويعتبر الخبير الاقتصادي والمحاضر بالجامعة الأميركية بالقاهرة هاني جنينة، خلال حديثه مع منصة "المشهد"، أنّ "بيانات سوق العمل في الولايات المتحدة وتراجع معدلات البطالة، يدفعان البنك المركزي الأميركي، للحفاظ على سياسته النقدية المتشددة رغم تباطؤ التضخم"، قائلا: "معدلات البطالة وصلت إلى 3.6%. والمتوسط التاريخي كان في حدود 5% تقريبا، وهذا في حدّ ذاته يدل على قوة سوق العمل". ويضيف جنينة: "المركزي الأميركي لديه تخوفات بشأن حدوث دورة تضخمية أخرى متسارعة حال إبطاء رفع أسعار الفائدة، خصوصا أنّ الإنفاق الاستهلاكي للمواطن الأميركي لا يزال مرتفعا، وهو ما يمثّل نحو 80% من إجمالي الناتج المحلي في البلاد"، مشيرا إلى أنّ استمرار ارتفاع الإنفاق الاستهلاكي سيضغط على أسعار السلع والتكاليف لدى الشركات. وخلال يونيو الماضي، أظهرت بيانات التوظيف الأميركية بالقطاع الخاص، ارتفاعا بواقع 497 ألف وظيفة، وهو أعلى بكثير من توقعات الأسواق بارتفاعه بنحو 226 ألف وظيفة، ما يشير إلى تحسن الأوضاع بسوق العمل، حسبما أعلن مكتب إحصاءات العمل. ويؤكد المحلل الاقتصادي والمدير التنفيذي لشركة "VI Markets" أحمد معطي، أنّ الإنفاق الاستهلاكي في الولايات المتحدة لا يزال مرتفعا رغم رفع أسعار الفائدة إلى مستويات كبيرة منذ مارس الماضي، قائلا خلال حديثه مع منصة "المشهد": "الإنفاق الاستهلاكي قوي، والبنك المركزي الأميركي لايزال يخشى ذلك، لأنه قد يُعيد التضخم مرة أخرى إلى الارتفاع". ويرى معطي أنّ إشارة الاحتياطي الاتحادي لرفع جديد لأسعار الفائدة خلال 2023، يرجع بشكل أساسي إلى استمرار ارتفاع معدل التضخم الأساسي، الذي يستثني السلع متقلبة الأسعار مثل الطاقة والغذاء، موضحا أنّ "التضخم الأساسي في الولايات المتحدة لا يزال مرتفعا عند 4.8%، على أساس سنوي في يونيو، وهذا معدل بعيد عن هدف المركزي، لذا التضخم مستمر في ظل قوة الإنفاق الاستهلاكي". وردا على تساؤل خلال مؤتمر صحفي عقب قرار رفع الفائدة، حول ما إذا كان الطلب الهائل على فيلم "باربي" في الولايات المتحدة، وتخطي مبيعات التذاكر نحو 155 مليون دولار خلال عطلة نهاية الأسبوع، بمثابة دليل على قوة الإنفاق الاستهلاكي بأميركا، أجاب رئيس مجلس الاحتياطي الاتحادي بالقول، إنّ "المستهلك الأميركي في حالة جيدة للغاية"، لكنّ جيروم باول حذر من أنّ حدوث انتعاش كبير في النمو، قد يؤدي إلى ارتفاع الأسعار مرة أخرى. متغيرات أخرى اتفق المحللون الذين تحدثوا إلى منصة "المشهد"، حول أنّ البنك المركزي الأميركي وضع أيضا بعض المتغيرات الأخرى في الحسبان خلال الفترة المقبلة، في إطار توقعاتها لرفع الفائدة مرة أخيرة خلال عام 2023، والتي يأتي في مقدمتها ارتفاع أسعار النفط، والاضطرابات المتوقعة في أسعار الغذاء والحبوب، بعد انسحاب روسيا من اتفاقية تصدير الحبوب، حيث دلل على ذلك ما قاله المركزي الأميركي إنه سيقيّم سلسلة بيانات لدى "تحديده حجم التشدد المالي الإضافي" خلال الاجتماعات الثلاثة المتبقية للجنة السوق المفتوح العام الجاري. ويقول الخبير الاقتصادي هاني جنينة خلال حديثه، إنّ "الأحداث الطارئة المتعلقة بميناء أوديسا في أوكرانيا، وانسحاب روسيا من اتفاقية تصدير الحبوب، من الممكن أن تكون قد ألقت بظلالها على التوقعات، مع ارتفاع أسعار النفط والقمح". ويضيف: "ارتفاع أسعار الغذاء يعني امتداد ذلك إلى سلع أخرى، وهذا بدوره قد ينتقل إلى ارتفاع التكاليف والأجور، وعودة التضخم للصعود مرة أخرى، وهذا بالطبع يمثل تخوف كبير بالنسبة للبنك الاحتياطي الاتحادي". وواصلت روسيا هذا الأسبوع هجومها على أوديسا وميكولايف في أوكرانيا والتي تضم موانئ جرى تشغيلها في إطار اتفاق تصدير الحبوب الذي انسحبت منه موسكو هذا الشهر، إذ كان يسمح بالمرور الآمن لشحنات الحبوب من كييف والتي تُعتبر موردا مهما للحبوب في العالم، خصوصا أنّ الاتفاقية هدفت إلى المساعدة في تخفيف حدة أزمة الغذاء العالمية التي تفاقمت بسبب الصراع. ويتفق المحلل الاقتصادي أحمد معطي مع ما قاله هاني جنينة، مشيرا إلى أنه جانب قوة سوق التوظيف والإنفاق الاستهلاكي، "هناك جزء أخر يرتبط بارتفاع أسعار النفط والتي قد تؤدي إلى تنامي الضغوط التضخمية مرة أخرى". واتجهت أسعار النفط الخميس إلى أعلى مستوى في أكثر من 3 أشهر، مع التركيز على شحّ المعروض والتوقعات بزيادة الطلب الصيني، إذ ارتفعت العقود الآجلة لخام برنت إلى 83.64 دولارا للبرميل بالمقارنة مع 73.57 دولارا في نهاية يونيو الماضي، بينما صعد خام غرب تكساس الوسيط الأميركي إلى 79.56 دولارا للبرميل، ليتجه نحو أعلى مستوياته منذ 19 أبريل الماضي.الركود أفضل جدد رئيس البنك المركزي الأميركي تأكيداته على أنّ الاقتصاد لن يدخل في حالة ركود اقتصادي رغم رفع أسعار الفائدة، وهو الأمر الذي يتوقعه بعض المحللين المتفائلين، غير أنّ هناك مجموعة من الخبراء يعتبرون استمرار زيادة أسعار الفائدة، سيقود الناتج المحلي الأميركي نحو الانكماش، ومن بينهم الخبير الاقتصادي هاني جنينة والذي يقول: "ما يحدث قد يقود إلى ركود. والبنك المركزي الأميركي اكتشف تاريخيا أنّ الركود هو بديل أفضل من استمرار التضخم وتنامي توقعات ارتفاع الأسعار، وهو الأمر الذي حدث في سبعينيات القرن الماضي". ويجري تعريف الركود عموما بأنه ربعان متتاليان من الانكماش، أي أنّ النمو الاقتصادي يسجل قيما سالبة على مدار النصف عام. ويضيف جنينة: "مسؤولو الاحتياطي الاتحادي عاصروا أزمة التضخم في القرن الماضي، ويعلمون جيدا أنّ التأثيرات السلبية للتضخم ستكون طويلة الأمد وذات انعكاس أوسع من الركود الاقتصادي، لهذا لا يمانعون من الدخول في ركود من أجل السيطرة على التضخم". ومن المتوقع ألا يستمر الركود الاقتصادي طويلا حال حدوثه، حسبما يقول المحاضر بالجامعة الأميركية في القاهرة، والذي يشير إلى أنّ ذلك يرجع إلى "تماسك القطاع المصرفي الأميركي والعالمي رغم الأزمة المالية التي حدثته خلال الأشهر الماضية. فالقطاع البنكي يعمل بشكل جيد رغم ارتفاع أسعار الفائدة على القروض". ويتوقع جنينة أن يكون ركود الاقتصاد الأميركي أقل حدة، "ومن الممكن أن يحدث خلال النصف الأول من العام المقبل، قبل أن يتعافى الاقتصاد العالمي مرة أخرى في وقت لاحق، إذا لم يكن هناك أيّ اضطرابات أخرى".على النقيض من ذلك يستبعد المدير التنفيذي لشركة "VI Markets" دخول الاقتصاد الأميركي في ركود، مبررا توقعاته إلى استمرار معدلات التوظيف القوية في الاقتصادي، إذ يقول أحمد معطي: "الولايات المتحدة الأميركية لن تتجه إلى ركود. لا يمكن أن يكون هناك ركود مع استمرار التوظيف القوي". وأبدى معطي تفاؤله بالنمو الاقتصادي رغم توقعاته بزيادة جديدة لأسعار الفائدة الأميركية بنحو 25 نقطة أساس قبل نهاية العام، قبل أن تنحسر الموجة التضخمية منتصف عام 2024، مشيرا إلى أنّ صندوق النقد الدولي رفع توقعاته في ما يتعلق بنمو الاقتصاد العالمي والأميركي خلال عام 2023. وفي تقرير آفاق الاقتصاد العالمي الصادر قبل أيام، رفع صندوق النقد الدولي توقعاته لنمو الاقتصاد العالمي إلى 3% في عام 2023، مقارنة بنحو 2.8% في توقعات أبريل الماضي، كما رفع توقعات نمو الولايات المتحدة إلى 1.8% من 1.6%، غير أنه توقع تباطؤ نمو اقتصاد أميركا إلى 1% في عام 2024، واستقرار نمو الاقتصاد العالمي عند 3%. في غضون ذلك، حذّر صندوق النقد في تقريره من التأثيرات السلبية لرفع أسعار الفائدة الأساسية على النشاط الاقتصادي، مشيرا في السياق ذاته، إلى أنّ التضخم الكلي العالمي سينخفض من 8.7% في عام 2022، إلى 6.8% عام 2023 و5.2% عام 2024.(المشهد)