على مدار عام 2023، كانت الاقتصادات في مختلف أنحاء العالم تكافح من أجل كبح جماح التضخم وأزمة غلاء المعيشة والتي تفاقمت بسبب الزيادات الكبيرة في أسعار السلع الغذائية والمحروقات، إذ ألقت الحرب الروسية الأوكرانية وتأثيرات الوباء المتراكمة بالظلال على الاقتصاد العالمي تاركة البنوك المركزية أمام خيارات صعبة واستثنائية. وواصلت البنوك المركزية وفي مقدمتهم البنك الفيدرالي الأميركي حملة رفع أسعار الفائدة خلال عام 2023 والتي بدأتها في مارس 2022، حيث زادت الفائدة إلى مستويات غير مسبوقة، لتبلغ مع نهاية العام في منطقة اليورو 4% وهي الأعلى على الإطلاق، فيما بلغت الفائدة في الولايات المتحدة بين 5.25% و5.5% وهي الأعلى في 22 عاما. هل نجحت البنوك المركزية في السيطرة على التضخم؟ وفي تقرير آفاق الاقتصاد العالمي المنشور قبل شهرين، أشار صندوق النقد الدولي إلى أن التضخم أوشك على أن يصبح قيد السيطرة تدريجيا، ليتباطأ من 9.2% في 2022 على أساس سنوي إلى متوقع عند 5.9% في نهاية 2023. لكنه حذر في الوقت نفسه من إمكانية رسوخ التضخم بفعل نقص المعروض بأسواق العمل ووفرة المدخرات والتطورات السلبية في أسعار الطاقة، الأمر الذي قد يدفع البنوك المركزية إلى المزيد من الإجراءات القوية. ويعتبر الخبراء الاقتصاديون الذين تحدثوا مع منصة "المشهد" أن البنوك المركزية نجحت على نطاق واسع في السيطرة على التضخم الجامح خلال عام 2023، إذ يقول الرئيس التنفيذي لشركة "نيو فيجن" لإدارة الثروات في دبي الدكتور ريان ليمند: "من الواضح أن حملة السيطرة على التضخم قد نجحت، خصوصا في أميركا، حيث اقترب المعدل من المستهدف عند 2%". وسجلت معدلات التضخم في أميركا خلال نوفمبر الماضي 3.1% متراجعة من 6.5% مطلع عام 2023، "غير أن هذا لم يمنح الفيدرالي الأميركي المزيد من الطمأنينة فيما يتعلق بالسيطرة عليه"، حسبما يرى الخبير الاقتصادي نايل الجوابرة، والذي يقول خلال حديثه مع منصة "المشهد"، إن قيادات البنوك المركزية في أوروبا وأميركا متشددة في تحقيق الأهداف الموضوعة بالنسبة للتضخم. واتجه البنك المركزي الأميركي في آخر اجتماعات لجنة السوق المفتوحة في عام 2023، إلى إبقاء أسعار الفائدة دون تغيير عند أعلى مستوى في أكثر من عقدين، لكنه أضاف المزيد من الضبابية حول التوجهات المستقبلية بعدما أعطى إشارة قوية إلى انتهاء حملة رفع الفائدة دون أن يستبعد إمكانية زيادتها مرة أخرى خلال العام المقبل. وتحدث رئيس البنك المركزي الأميركي جيروم باول في المؤتمر الصحفي الذي أعقب الاجتماع، عن مناقشات داخل لجنة السوق المفتوحة لتخفيض أسعار الفائدة في العام المقبل حتى في حال لم ينزلق الاقتصاد إلى الركود، لكنه لم يستبعد إمكانية رفع أسعار الفائدة مرة أخرى استنادا إلى البيانات الاقتصادية. وهو الأمر الذي يؤيده الخبير الاقتصادي ريان ليمند، مشيرا إلى أن "التضخم في الولايات المتحدة عبر التاريخ لا يرتفع بشكل حاد مرة واحدة، ودائما ما يكون هناك أكثر من دورة للتضخم، لذا لن تكون مفاجأة أن يحدث ارتفاع جديد في التضخم خلال عام 2024". ويتوقع ليمند أن تظل أسعار الفائدة مرتفعة نوعا ما خلال النصف الأول من العام المقبل، قبل أن يبدأ البنك المركزي الأميركي خلال النصف الثاني في تخفيضها تدريجيا، قائلا: "سيتم تخفيض أسعار الفائدة، لكنها ستظل مرتفعة، وأن العودة إلى مستويات فائدة صفرية أمر مستبعد خلال العام المقبل، إلا إذا حدثت صدمات اقتصادية كبيرة أدت إلى اتخاذ مثل ذلك القرار". ويتفق مع هذا أيضا الخبير الاقتصادي نايل الجوابرة، والذي يعتبر أن التضخم لا يزال يشكل عامل ضغط رئيسي على الاقتصادات والبنوك المركزية خلال العام المقبل، مع ترقب الأسواق لأي خطوة لتخفيض أسعار الفائدة من أجل خفض تكاليف الاقتراض. في المقابل، من المرجح أن تؤدي بيئة النمو الضعيفة خلال العام المقبل إلى إعادة التضخم إلى أهداف البنوك المركزية في وقت أقرب مما يتوقع، بحسب مذكرة بحثية حديثة صادرة عن مؤسسة "كابيتال إيكونوميكس"، والتي ذكرت: "بناء على ذلك، ينبغي أن تكون البنوك المركزية قادرة على خفض أسعار الفائدة مرة أخرى إلى مستويات أكثر حيادية". إلى أين يتجه الاقتصاد العالمي؟ وانعكاسا على ارتفاع أسعار الفائدة بشكل مطرد منذ العام الماضي، كان يتوقع صندوق النقد الدولي في يناير الماضي، تباطؤ نمو الاقتصاد العالمي خلال عام 2023، وهو ما حدث جزئيا، حيث إن المستشار الاقتصادي ومدير إدارة البحوث لدى صندوق النقد بيير أوليفييه غورينشا، كتب في مذكرة مطلع العام الجاري: "من المتوقع أن يتباطأ الاقتصاد العالمي هذا العام، قبل أن يعاود مسيرة التعافي العام القادم. وسيظل النمو ضعيفا بالمعايير التاريخية، بينما الكفاح ضد التضخم وحرب روسيا في أوكرانيا يؤثران سلبا على النشاط الاقتصادي". غير أن غورينشا عاد ليقول في تقرير صندوق النقد المنشور قبل شهرين إن "درجة صلابة الاقتصاد العالمي لا تزال مبهرة، كما أن تباطؤ مسيرة الاقتصاد لم تتوقف"، متوقعا أن يسجل النمو الاقتصادي العالمي في 2023 3% متراجعا من 3.5% في 2022، على أن يتواصل التراجع خلال العام المقبل ليبلغ 2.9%. ويؤكد هذا أيضا الدكتور ريان ليمند، مشيرا إلى أن "الاقتصادات التي تقود الاقتصاد العالمي مثل الولايات المتحدة وأوروبا والتي رفعت أسعار الفائدة، ستواجه تباطؤا اقتصاديا وهذه نتيجة حتمية". ويضيف ليمند: "اقتصادات أميركا وأوروبا ستتباطأ، كما يمكنها الدخول في مرحلة ركود هادئة خلال العام المقبل"، متوقعا تعرض اقتصادات عدة حول العالم للركود وفي مقدمتها منطقة اليورو. بدوره، يرى الخبير الاقتصادي نايل الجوابرة أن فرصة حدوث ركود اقتصادي حاد لا تزال قوية للغاية، مع استمرار ارتفاع الفائدة وموجة التسريح التي بدأتها الشركات العالمية تدريجيا منذ مطلع 2023 نتيجة ارتفاع التكاليف. وفي مذكرة بحثية كتبتها هذا الشهر كبيرة محللي الاقتصاد العالمي لدى مؤسسة "كابيتال إيكونوميكس" جينيفر ماكيون، أكدت أن النمو العالمي سيقل عن التوقعات في عام 2024 مع ظهور الآثار المتأخرة لتشديد السياسة النقدية من قبل البنوك المركزية، متوقعة أن يشهد اقتصاد منطقة اليورو ركودا على نطاق واسع خلال النصف الأول من العام المقبل. أما بالنسبة لاقتصادات آسيا، لا يتوقع الخبراء حدوث ركود واسع على خلاف أميركا وأوروبا، إذ يقول الخبير الاقتصادي ريان ليمند إن اقتصادات آسيا ستشهد نموا لكنه سيكون محدودا خصوصا الصين التي تكافح للتعافي من جائحة كورونا. ويُعرف الركود الاقتصادي بأنه ربعان متتاليان من الانكماش، أي أنّ النمو الاقتصادي يسجل قيما سالبة على مدار النصف عام. ويرى صندوق النقد الدولي في تقرير "آفاق الاقتصاد العالمي" أن بوادر تأثير التشديد النقدي بدأت في الظهور، حيث انعكس سلبا على أسواق الإسكان والاستثمار والنشاط الاقتصادي، وبدرجة أكبر في البلدان التي تزيد فيها نسبة القروض العقارية بسعر فائدة متغير، كما زادت حالات إفلاس الشركات في الولايات المتحدة ومنطقة اليورو. تحديات الاقتصاد العالمي خلال 2024 اتفق الخبراء والمحللون خلال حديثهم مع منصة "المشهد" على أنه إلى جانب التضخم وارتفاع أسعار الفائدة، فإن التحديات الجيوسياسية في شرق أوروبا ومنطقة الشرق الأوسط سيكون لها تأثير على الاقتصاد العالمي. ويقول الخبير الاقتصادي ريان ليمند إن التحدي الأبرز فيما يتعلق بالشق الاقتصادي هو "الهبوط الناعم" للاقتصادات والدخول في ركود تحت السيطرة، على ألا يكون عنيفا مثل عام 2008، حينما تسارع انكماش الاقتصادات ووتيرة التخلي عن الموظفين. وبحسب صندوق النقد الدولي أدت أزمة 2008 إلى المزيد من الإصلاحات في النظام المالي العالمي، لكنها خلفت تأثيرا طويل الأمد على اتجاهات الإنتاجية وتشغيل العمالة. كما قال البنك الدولي في عام 2011 إنها هددت بمحو سنوات من التقدم في البلدان النامية، مما دفعه إلى زيادة الإقراض إلى مستويات غير مسبوقة. ويضيف ليمند: "أما فيما يتعلق بالتحديثات الجيوسياسية، فإن الحرب في أوكرانيا لا تزال مستعرة، ومن الممكن أن يكون لها تأثير مباشر على الاقتصاد العالمي وأسواق الطاقة. كما هو الحال أيضا في حرب غزة، والتي لا يزال توسع نطاقها غير محسوم، وهناك ضبابية فيما يتعلق بانخراط أطراف غربية أو إقليمية في الصراع". ومن الممكن أن يؤدي توسع دائرة الصراع في المنطقة إلى تأثيرات ضخمة وغير مواتية على الاقتصاد العالمي، والتي ستنتج بشكل أساسي من انقطاع خطوط الشحن والإمداد من الشرق والغرب، حسبما يؤكد ريان ليمند. ويؤيد هذا الخبير الاقتصادي نايل الجوابرة، مؤكدا أن تطورات الأوضاع الجيوسياسية في منطقة الشرق الأوسط ستلعب دورا في الاتجاهات المستقبلية للاقتصاد العالمي، "حيث إن الأنظار تتجه إلى الملاحة الدولية في البحر الأحمر، وهذا قد يؤثر على أسعار الطاقة". واتجهت خلال الأسابيع القليلة الماضية شركات عدة تعمل في قطاعي النفط والشحن إلى وقف مؤقت لجميع الرحلات عبر البحر الأحمر، بسبب الهجمات التي تشنها ميليشيا "الحوثي" على السفن التجارية المرتبطة بإسرائيل، بزعم الضغط من أجل وقف الحرب في غزة. ويمر نحو 15% من حركة الشحن العالمية عبر قناة السويس، ما يوفر أقصر طريق شحن بين أوروبا وآسيا. وسيؤدي تحويل مسار السفن للمرور عبر طريق الرجاء الصالح إلى زيادة مدة الشحن أسبوعا أو أسبوعين. واعتبر خبراء صندوق النقد الدولي في تقرير منشور مطلع الشهر الجاري أن مدى تأثير الصراع في غزة على المنطقة محاطا بقدر كبير من عدم اليقين وسيعتمد على مدة الصراع وشدته وانتشاره، لكنهم قالوا إن تصعيد الصراع سيمثل نقطة تحول في المنطقة، والتداعيات ستكون واسعة النطاق، وستتجاوز سريعا حدود بلدان الجوار المباشر. وبحسب صندوق النقد الدولي، فإن دول المنطقة تنتج 35% من صادرات النفط العالمية و14% من صادرات الغاز، مشيرا إلى أن تداعيات الاضطرابات المحتملة في الإنتاج تلوح بقوة في الأفق، غير أنه على خلاف الحالات السابقة، يمكن للبلدان المنتجة للنفط، ولا سيما بلدان المنطقة، الاستفادة من وفرة الطاقة الفائضة في زيادة الإنتاج بسرعة، مما يساعد على تخفيف التأثير. (المشهد)