في كل مرة يواجه العالم أزمة جيوسياسية، تفرض العملات الرقمية نفسها كنظام مالي بديل، يعتمد عليه المواطنون والمنظمات غير الحكومية في مواجهة تقلبات سوق المال المحلية وانهيار سعر الصرف.وأصبحت العملات الرقمية ملاذا آمنا في كل مرة تتزعزع الثقة بالأنظمة، وتنتشر الفوضى في المؤسسات المالية والمصرفية، لاسيما في الحروب والأزمات السياسية والمالية.وقد يكون لبنان خير مثال على ذلك من بين الدول العربية، خصوصا أنه يواجه واحدة من أشد 3 أزمات على مستوى العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر، بحسب تصنيف البنك الدولي.ويعاني لبنان من كساد اقتصادي حاد ومزمن وعدم رضا عام بالمصارف بعدما اتخذت من ودائع اللبنانيين رهينة، بالإضافة إلى أن التقاعس المستمر في تنفيذ السياسات الإنقاذية يهدد الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، ولا تلوح في الأفق أي نقطة تحول إلا تلك الخاصة بالعملات الرقمية.بنك خاص لكل مستخدم"فلوس"، حافظة رقمية ومنصة لأسواق الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، تم تأسيسها في مارس 2022، وتهدف إلى تمكين الأشخاص عبر العملات المشفرة، وهي تُستخدم بشكل رئيسي في لبنان وأوكرانيا منذ الغزو الروسي، بحسب موقعها الإلكتروني.ويعتبر المدير التنفيذي والشريك المؤسس لـ"فلوس" تاي الرجولة أن "الكريبتو (العملات الرقمية) هو الحل الفعال والبديل الفوري للعملات المحلية"، مضيفا أن "العالم أمام اقتصاد جديد تقدمي، يجعل المتداولين به بمأمن عن أي عقبات سياسية أو استنسابية إدارية".وقال في حديث لمنصة "المشهد":"فلوس" تحاول بناء بنك رقمي سيادي يقوم على مبدأ الـUnhosted Wallet، أي المحافظ المستقلة أو بمعنى أدق السيادية.هذا النوع من المحافظ الرقمية يعني أن المستخدم يكون هو صاحب المال ومالك رأسمال وليس البنك.من ناحية عملية، عندما يتم إيداع المال في البنوك التقليدية، فهي تخرج من جيب المودع وتنتقل للإدارة المصرفية، وهو الأمر غير الموجود في المحافظ الرقمية السيادية.والـ"Unhosted Wallet"، تعني المحافظ غير المستضافة وهي نوع من محافظ الحراسة الذاتية التي تتيح للمستخدمين الاحتفاظ بأرصدة عملاتهم المشفرة بعيدا عن أي بورصة أو أي طرف ثالث، وهي جسر بين المستخدم والبلوكشين بشكل لا مركزي فيه حرية كاملة وغير مقيدة. بمعنى أوضح، إنها مثل الاحتفاظ بالمال في محفظة الشخص الخاصة، حيث يكون المستخدم المتحكم الوحيد في أمواله الخاصة، وهي بذلك تختلف عن محافظ التبادلات مثل بينانس (Binance) وكوين بايس (Coinbase)، وما إلى ذلك باعتبار كلها محافظ مستضافة.بديل عن العملات المحليةوتعتمد "فلوس" على عملة تيثر (Tether) باعتبارها من العملات الرقمية الثابتة أمام الدولار، بحسب الرجولة الذي أكد أن "لبنان في أزمته الحالية لديه خيار جدي باللجوء لهذا النوع من العملات والمنصات الرقمية التي تتيح إمكانية نقل الأموال وتحويلها على مدار 24 ساعة وطوال أيام الأسبوع، من دون انقطاع وبمعزل عن الفساد السياسي والمالي".وتحتل عملة التيثر المرتبة الثالثة عالميا من حيث القيمة السوقية للعملات المشفرة خلف البيتكوين (Bitcoin) والإيثريوم (Ethereum)، ولكنها مختلفة عنها، باعتبارها مرتبطة بأصل في العالم الحقيقي، وهو الدولار الأميركي، ما يجعلها أكثر استقرارا من غيرها، إذ لا تشهد التحركات العنيفة نفسها صعودا أو هبوطا.وحول مستخدمي العملات الرقمية، يقول الرجولة إن "هناك طلب كبير في لبنان، من الميكانيكي إلى أستاذ المدرسة والتجار وصولا إلى الصحفيين والمترجمين وغيرهم".وتابع: "الفقراء والأغنياء، الجميع بحاجة لاستلام أموال من دون قيود، وتحويلها إلى الخارج وحتى إعادة إدخالها، والاستيراد والتصدير من خلالها".ويعاني اللبنانيون من محنة امتلاك دولارات محتجزة في مصارف لبنانية، وتفرض البنوك التي انخفض بشدة ما لديها من سيولة دولارية قيود على تصرف زبائنها في أموالهم وتسمح لهم الآن بالسحب من الودائع الدولارية بالعملة اللبنانية بسعر 3900 ليرة مقابل الدولار أي حوالي ربع قيمة الدولار في السوق السوداء وبسقف محدد، وفقا لرويترز.وعن استخدامات "فلوس"، يُبين الرجولة أن "أهم خدمة جاذبة في التطبيق بالنسبة للسوق اللبناني، هي الـ Cash out، أي تحويل التيثر للدولار واستلامها، وهذا يتم عن طريق عملاء يأتون للمستخدم ويسلمونه العملة الصعبة بعد طلب يقدمه عبر التطبيق".وعن مصدر الدولار في السوق المحلية، يقول الرجولة إن "أي شخص يتوافق مع شروط الأهلية في فلوس، بإمكانه الانضمام كعميل لنا، وتأتي العملة الأجنبية من السوق المحلية، حيث هناك من يريدون البيع أو الشراء، وكل ذلك بعيدا عن الاحتكارات".انهيار الاقتصاد في فنزويلا ومثل الواقع في لبنان، تأثر اعتماد العملة المشفرة في فنزويلا بالاضطرابات السياسية التي وقعت في أعقاب الاحتجاجات الجماهيرية التي نظمها خوان غوايدو، رئيس الجمعية الوطنية المعارضة، والتي دعا فيها الجيش إلى مساعدته في إنهاء حكم نيكولاس مادورو.وخلال سنوات سقوط اقتصاد بلدهم، تحول العديد من الفنزويليين إلى العملات المشفرة، حيث بلغ معدل التضخم السنوي في فنزويلا 1300000% في 12 شهرا حتى نوفمبر من العام 2018، وفقا للجمعية الوطنية المعارضة.فئة 100 بوليفار (العملة الفنزويلية المحلية) التي كانت ذات يوم أعلى فئة معروضة في فنزويلا، باتت تساوي حوالي 2 سنت فقط، ما دفع الكثير من الناس إلى اتخاذ العملات المشفرة في التعامل اليومي وفي الأسواق الأكثر شعبية حتى، بحسب تقرير لمجلة "فوربس".ووفقا لما نقلته "فوربس" عن "Bitcoin brokerage Surbitcoin.com"، ارتفع عدد المستخدمين الفنزويليين للعملات الرقمية من 450 في أغسطس 2014 إلى أكثر من 85000 في نوفمبر 2016.ولبدء قبول عملة البيتكوين كاش ( BCH)، يقوم أصحاب المتاجر ببساطة بتحميل محفظة بيتكوين، على أنه يمكن العثور على التجار الذين يقبلون BCH على خريطة Marco Coino، وهو تطبيق أنشئ لهذا الغرض، وفقا لموقع "بيتكوين" الرسمي.إرسال المساعدات الإنسانية وحتى في الحروب والأزمات الإنسانية وفي مقدمتها اللجوء، كانت العملات الرقمية الطريق الوحيد لضمان إيصال المساعدات الإنسانية بطريقة آمنة مع إمكانية تتبعها والانتباه إلى كيفية انتقالها وتداولها، حرصا على عدم استخدامها بطرق مشبوهة مثل دعم الإرهاب أو غسل الأموال.وعندما بدأت الحرب الروسية الأوكرانية فبراير 2022، صُدم العالم بأسره وتوقع أن تنهار الأسواق، لكن سوق العملات المشفرة ظل أقوى من أي وقت مضى، وتعزز دور العملات في تقديم التبرعات، إذ بدأت الحكومة الأوكرانية حينها في قبول العملات المشفرة.ووفقا لشركة البيانات المشفرة "Kaiko"، فبعد بدء الصراع، ارتفعت المعاملات على بورصات البيتكوين المركزية في الروبل الروسي والهريفنيا الأوكرانية إلى أعلى مستوياتها منذ شهور.وتعتمد منظمات إنسانية عدة على إيصال المساعدات للأوكرانيين من خلال العملات الرقمية، وذلك يعود لسرعة التحويل، وإمكانية التتبع، بحسب الخبير في مجال تعاملات بلوكشين الرقمية، جهاد قنديل.وأوضح قنديل، في حديث لمنصة "المشهد"، أن "أهم ما يعني الدول والمنظمات المانحة في حالات الحروب والأزمات الجيوسياسية هو مراقبة تنقل الأموال، حيث تبين تقنية البلوكشين لحظة تحول المساعدات لعملات رقمية، حتى استخدامها بشكل مفصل مع التاريخ والوقت".والبلوك تشين أو سلسلة الكتل بالعربية، هو عبارة عن نظام سجل إلكتروني مشترك، مشفر، وآني، وغير مركزي لتدوين ومعالجة المعاملات المالية، العقود، الأصول المادية، ومعلومات سلسلة التوريد، بحسب تعريف شركة "IBM".ورأى قنديل أن "العملات الرقمية التي تعتمد على البلوكشين تمنع الفساد المالي والاختلاس والسرقات، الأمر الذي يعزز من فعالية التبرعات ويشجع عليها، بفضل تأمين الثقة وتعزيز المراقبة".تم إنشاء أول مبادرة تشفير في أوكرانيا باسم DAO، حيث جمعت ملايين الدولارات من العملة المشفرة المرسلة إلى البلاد كمساعدات إنسانية، بحسب تقرير لمجلة "فوربس".وفي غضون أيام من بدء العملية الروسية في البلاد، تم جمع 100 مليون دولار عبر محافظ الحكومة وكبار المنظمات غير الحكومية، وكان ذلك عبر عملتي بيتكوين (BTC) وتيثر (USDT).بدوره، يوضح الرجولة أنه "عندما أصبحت المنظومة البنكية معطلة بسبب الحرب الروسية على أوكرانيا، لم يعد هناك طريقا لإدخال المساعدات إلا بالعملات الرقمية، حيث لا يمكن الاعتماد على التحويلات المصرفية أو حتى نقل المال عبر البر".وتابع الرجولة أن "المنظمات غير الحكومية، تعتمد على المحافظ السيادية، وتقوم بتحويل عملة usdt مثلا على أن يستطيع الفرد استلامها من شركات الصيرفة بالعملة المحلية ". وشدد على أن "في الأزمات الإنسانية الأولوية دائما للبساطة والتسهيل، إذ يمكن إنقاذ حياة الناس بإيصال المبالغ بشكل أسرع". الكريبتو بيد اللاجئين في المقابل، لا ينحصر دور العملات الرقمية في إيصال المساعدات الإنسانية لجمعيات محلية، حيث أرسلت الأمم المتحدة مساعدات إلى 10 آلاف لاجئ سوري باستخدام عملة الإيثريوم عام 2017، ولكنها اختارت هذه المرة إيصال الأموال مباشرة إلى يد اللاجئين مع منحهم الحق بالتصرف بها بحرية.وصمم المشروع الذي يديره برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة (WFP) لتوجيه الموارد إلى آلاف اللاجئين السوريين من خلال منحهم قسائم قائمة على العملات المشفرة يمكن استردادها في الأسواق المشاركة، بحسب موقع منصة "كوين داسك".والتجربة نفسها طُبقت في ألمانيا، وكان قنديل أحد المشرفين عليها، إذ يستحضرها قائلا إنها "تجربة عصرية نبيلة تدمج التكنولوجيا بالإنسانية".وأضاف قنديل أنه "بمجرد حصول اللاجئ على بطاقة اللجوء الألمانية، تمنحه الدولة مبلغا من المال، كانت في البداية لا تعلم كيفية استخدامه والجهة التي سيؤول إليها، فأنشأت محفظة رقمية باسم رفيو تاك، وصلت كلفتها إلى حوالي مليوني دولار أميركي".ووصل عدد اللاجئين السوريين في ألمانيا إلى حوالي 800 ألف سوري، وذلك بحسب تقرير للمكتب الإحصائي الاتحادي الألماني عام 2021.واعتمدت التجربة الألمانية على عملة الإيثريوم، فيمنح اللاجئ بدلا من 1000 يورو على سبيل المثال، 5000 وحدة من العملة الرقمية، ليستخدمها في الأسواق المعتمدة لشراء حاجياته اليومية، وحتى استئجار السيارات والمنازل وغيرها.واعتبر قنديل أن "أهمية العملات الرقمية كانت في مراقبة المدفوعات، تعزيز القدرة الشرائية، زيادة الوعي التكنولوجي، وتسهيل الاندماج على اللاجئين ".بل وأكثر من ذلك، استفادت ألمانيا من العملات الرقمية في المحافظة على البيئة وترشيد استهلاك الطاقة، حيث قال قنديل إن "المنازل في غالبية المحافظات مزودة بعداد يشير إلى استهلاك الطاقة، ووفرت الحكومة للاجئين خيارا بشراء الطاقة وبيعها بالعملات الرقمية، من أجل حثهم على التوفير".وتابع: "على سبيل المثال، يستطيع اللاجئ بيع كيلو واط مقابل توكن (وحدة مالية إلكترونية)، إذ تشتري الحكومة العملة الرقمية وتعطيه يورو، الأمر الذي دفع الكثير منهم إلى ترشيد استهلاكهم بشكل كبير".وفي الختام، وفي خضم تحديات الأزمات الجيوسياسية، يمكن أن تساعد العملات الرقمية في تسهيل الوصول إلى التبرعات وتقليل المخاطر المحتملة.إلا أنه يبقى هناك حاجة ماسة في بعض الدول لدعم وتطوير المزيد من الوسائل من أجل الانتقال السلس بين العملات الورقية والعملات المشفرة، حتى يتمكن الناس العاديون من تبادل العملات المشفرة بشكل فعال للسلع والخدمات. (المشهد)