تتحرك الدبلوماسية التونسيّة هذه الأيام وفق منهجيّة جديدة على مستوى الرؤية والنسق بهدف رسم أفق اقتصاديّ مستقبليّ يستفيد من كل فرص الشراكة المتاحة خارج نمطيّة المحاور والأحلاف المتعارفة.وبدءًا بزيارة الرئيس التونسيّ قيس سعيّد إلى الصين والتي تواصلت لـ5 أيام، تلوح بوادر مرور بالسرعة القصوى إلى إنجاز شراكات عميقة الأبعاد تكون ذات تأثير مباشر على نمو الاقتصاد التونسي. لقد أفضت هذه الزيارة إلى توقيع عدد من الاتفاقيات ومذكرات التفاهم يتعلق أهمها باتفاقية للتعاون الاقتصاديّ والفنيّ ذات اتصال بتطوير البنية الأساسية الصحية والطرق والنقل والموانئ والمطارات.مشاريع واستثمارات جديدة في تونسوقد تم في هذا الصدد إقرار تمويل على المدى القريب يتعلق بتنفيذ مشروع المدينة الصحية بالقيروان، ومركز الأورام السرطانية في قابس وتهيئة الملعب الأولمبي في المنزه، كما بدأ فعليًا الشروع في تركيز مشروع لشركة صينية كبرى لإنتاج مركبات البضائع الثقيلة يستوعب قرابة الألف من اليد العاملة التونسية.كما شملت التفاهمات والمذكرات تركيزًا على مشاريع شراكة مهمة في مجال التمية الخضراء منخفضة الانبعاثات الكربونية، وتفعيل رافعات الاقتصاد في مجال الذكاء الاصطناعيّ، وفي المجمل حملت زيارة الرئيس التونسي إلى الصين مؤشرًا قوياً على تطوير حجم الشراكة مع الصين ليصل إلى ما يتناسب مع الموقع المحوريّ لتونس في عموم القارة الإفريقية، بعد عقود من شراكة تونسيّة صينية لم ترتق على الرغم من أهميتها إلى تحقيق أرقام ضخمة في حجم المبادلات التجارية والاستثمارات المباشرة. وبالتزامن مع هذه الزيارة، تحركت الديبلوماسية التونسيّة على خطوط أخرى توجت بإبرام اتفاقيات مع شركة سعودية كبرى وأخرى فرنسية وأخرى نمساوية لتنفيذ مشروع إنتاج الهدروجين الأخضر عبر الطاقات المتجددة، ما يفضي إلى استخراج وقود نظيف بإيجاد مراكز لتوليد الطاقة من المياه باستعمال الطاقة الشمسية وقوة الرياح، ومن المتوقع أن تصل الطاقة الإنتاجية إلى تونس في هذا المجال إلى 8 ملايين طن من الهيدروجين الأخضر في أفق سنة 2050 بما يمكن من إيجاد رافعة اقتصادية مضافة لتنمية الثروة الوطنية. هذا وشاركت تونس عبر رئيس حكومتها في القمة الكورية الإفريقية التي استضافتها كوريا الجنوبية والتي تمثل بثقلها الاقتصادي فرصة واعدة للشراكة والاستثمار.مسار 25 يوليو في تونسوانطلاقًا من كثافة التحركات الديبلوماسية التونسية وتنوع وجهاتها شرقًا وغربًا، يمكن ملاحظة مستوى مغايرًا بتصور جديد يتعاطى مع مكونات عالم متعدد الأقطاب خارج فكرة الشراكات الحصريّة مع هذا المحور الدوليّ أو ذاك، علمًا أنّ تونس قد حافظت من جهة على محيط شراكاتها التقليديّة مع الاتحاد الأوروبي، وبحثت من جهة أخرى عن طرق أبواب جديدة لاقتصاديات واعدة في منظومة "بريكس" بتقوية علاقاتها مع روسيا والصين، وتمتين شراكاتها التاريخيّة التي لم تنقطع مع المجموعة الخليجية العربية والتي عززت حضورها في منظومة "بريكس" بعضوية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة. إن ما رسخه مسار 25 يوليو في تونس من توجه سياديّ عميق يقطع مع الإملاءات ومنطق الوصاية والتبعية للمحاور قد أثمر عمليًا وجود حقل متنوع من ممكنات الشراكة على قاعدة النديّة وتبادل المنافع. وإذا كان العالم بأسره بصدد الانتقال من طور الأحادية القطبية إلى طور تعدد الأقطاب، فإن منطق التاريخ يضع أمام الشعوب الحرة حق الاختيار الحر لخارطة صداقاتها وشراكاتها بعيدًا عن الوصاية والهيمنة. وإذ لم تغب صبغة الانفتاح والحياد الإيجابي عن الديبلوماسية التونسية منذ نشأتها بعد الاستقلال، فإنّها ظلت كغيرها من دول جنوب المتوسط متفاعلة مع إكراهات حتمها ميزان القوة الضاغط بقواه الدولية المهيمنة، وشاء التاريخ أن تكون حظة 25 يوليو منطلقًا لإعادة تعريف هذه الديبلوماسية دون المساس بثوابتها المبدئية، فالذي حصل بالفعل هو تنزيل لهذه الثوابت على أرض الواقع وعلى إيقاع عالم يتغير ويتجه نحو وضع مفاهيم أخرى للتعايش خارج منطق الغلبة والقهر.