عادت إسبانيا بقوة إلى الساحة الدولية لكرة القدم ابتداءً من العام 2008 عبر تتويجها بطلة لأوروبا بقيادة المدرب الراحل لويس أراجونيس، قبل أن تستفيد من "ثورة برشلونة" لترسيخ فوقيتها الدولية من خلال انتزاع كأس العالم 2010 ومن ثم الاحتفاظ بلقب الـ"يورو" عام 2012 تحت جناح المدرب فيسنتي ديل بوسكي.فترة جمود تبعت الحقبة الذهبية قبل العودة إلى التتويج من خلال لقب دوري الأمم الأوروبية 2023، البطولة المستحدثة، ومن ثم "يورو 2024". خمسة ألقاب منذ 2008، علماً بأن إسبانيا كانت مكتفية بتتويج يتيم قبلها، يعود إلى 1964 عندما حققت اللقب الأوروبي. قبل ذلك أيضاً، لم تكن تعتبر أساساً من الدول الكبرى كروياً رغم كونها موطناً لاثنين من أكبر أندية العالم: ريال مدريد وبرشلونة. ترافقت تلك الفورة مع ترسيخ "المدرسة الإسبانية"، إذ خرّجت مدربين بالجملة جابوا العالم، فارضين أسلوباً سلساً قائماً على المتعة ومقروناً بالنتائج. ولا شك في أن إسبانيا تستحق كل ذلك بالاستناد إلى عمل كبير قام به الاتحاد المحلي، تحديداً على مستوى الناشئين، فضلاً عن ترسيخ الجماعية على حساب الفردية في الأداء، فتفوقت على ألمانيا أوروبياً (4 ألقاب مقابل 3) وسبقت فرنسا وإنجلترا وإيطاليا. باتت في مكان آخر متقدم، وصولاً إلى ترشيحها بقوة للتتويج بكأس العالم المقررة في الولايات المتحدة وكندا والمكسيك عام 2026، إلى جانب الأرجنتين.رحلة العودةحقق جيل سيرخيو راموس وإيكر كاسياس وتشافي هيرنانديز وأندريس إنييستا وكارليس بويول وغيرهم المجد، واليوم قصّ جيل لامين يامال ونيكولاس ويليامز شريط مجد جديد، والآتي قد يكون أكثر إبهاراً. تُشكر إسبانيا على ما قدمت لكرة القدم، لكن عليها هي بنفسها، أن تتقدم بالشكر إلى حسن الطالع الذي لطالما وقف في صفها خلال رحلة العودة التي انطلقت عام 2008 رغم الأداء الذي لطالما أسال لعاب المتابعين. يجدر التشديد على أن المردود الساحر لا يفرز الألقاب حُكماً. خير دليل على ذلك منتخب البرازيل في كأس العالم عامي 1982 و1986. كان بقيادة المدرب الراحل تيلي سانتانا. قدم أروع العروض في الأولى لكنه اصطدم بـ "إيطاليا - باولو روسي" في مباريات الدور الثاني وسقط 3-2 في مباراة دراماتيكية قيل بأنها لو أعيدت مئة مرة، لفاز "راقصو السامبا" بها. وفي الثانية، كان مثالياً قبل أن يخرج بركلات الترجيح، المعروفة على نطاق واسع بـ "ركلات الحظ"، أمام فرنسا في ربع النهائي. مؤشر على أن المتعة لا تؤدي بالضرورة إلى انتصارات، إلا مع "إسبانيا المستحدثة" التي حققت الألقاب كافة بتدخل، وإن بصور مختلفة، لحسن الطالع. في "يورو 2008"، لم تتمكن في حسم أمرها أمام إيطاليا في ربع النهائي. بفضل ركلات الترجيح، تغلبت على الـ "آتزوري" 2-4 بعد تعادل سلبي في الوقتين الأصلي والإضافي. بعدها بأربع سنوات، احتفظت باللقب القاري، مستعينة بركلات الترجيح أيضاً عند مفترق نصف النهائي أمام البرتغال وبالنتيجة نفسها المسجلة في النسخة السابقة أمام إيطاليا. وبين اللقبين الأوروبيين، انتزعت كأس العالم بأداء غير مقنع، باستثناء ذاك المقدم أمام ألمانيا في نصف النهائي. خسرت في الدور الأول أمام سويسرا بهدف، قبل أن تنقذ رأسها بفوزين على هوندوراس بهدفين وتشيلي 1-2. في دور الـ 16، تجاوزت البرتغال بهدف، ثم اصطدمت بالبارجواي في ربع النهائي وتجاوزتها بهدف أيضاً في مباراة كان فيها المنتخب الأميركي الجنوبي أكثر رغبة وأضاع ركلة جزاء عندما كانت النتيجة تشير إلى التعادل السلبي. في مجمل البطولة، سجل لاعبو "لافوريا روخا" 8 أهداف فقط في سبع مباريات. في المقابل، سجل الألمان، أصحاب المركز الثالث، على سبيل المثال، 16 هدفاً.البناء للمستقبلبعد سبات عميق، تولى لويس دي لا فوينتي مقدرات الجهاز الفني عام 2022 متسلحاً بفترة طويلة أمضاها مع المنتخبات السنية (تحت 19 و21 و23 سنة). كان اختياراً مثالياً الاعتماد على شخص عالم بكل الخبايا وقادر على البناء للمستقبل. دخل "منتخب دي لا فونتي" غمار التحدي الأول في دوري الأمم الأوروبية 2023. حقق اللقب على حساب كرواتيا في النهائي، لكن وكما درجت العادة، بركلات الترجيح 4-5 بعد التعادل السلبي في الوقتين الأصلي والإضافي. كان ذلك تحضيراً لكأس أوروبا 2024 في ألمانيا حيث فرضت إسبانيا نفسها فاكهة للبطولة، مزدانةً بأداء لا يجاريها فيه أحد، ومحصّنة بالثنائي اليافع "يامال - ويليامز". استحقت اللقب، ولكن... لن ينسى المتابع بأن الحكم الإنجليزي أنتوني تايلور حرم الألمان من ركلة جزاء واضحة عندما كانت نتيجة مباراتهم أمام الإسبان في ربع النهائي تشير إلى التعادل 1-1. في الدقيقة 107 من الشوط الإضافي الثاني، سدد جمال موسيالا كرة قوية نحو مرمى الحارس أوناي سيمون، لتصطدم بقبضة يد المدافع مارك كوكوريّا داخل "المنطقة المحرّمة". الحكم لا يحتسب ركلة جزاء ولا يعود حتى إلى الـ VAR. بعد شهرين على الواقعة وبعدما طارت الطيور بأرزاقها، أكدت لجنة الحكام في الاتحاد الأوروبي للعبة (يويفا)، وهو الجهة المنظمة للبطولة، في وثيقة بأنه كان يجب احتساب ركلة جزاء لألمانيا أمام إسبانيا، وأبلغت الحكام الدوليين بوجود خطأ في تلك اللعبة. ونصت الوثيقة: "في هذه الحالة، أوقف المدافع (كوكوريّا) التسديدة على المرمى بذراعه التي لم تكن قريبة جدا من الجسم. لذلك كان يجب منح ركلة جزاء". المهم، ربما، أن إسبانيا هي من تابع المشوار نحو النقطة الأعلى من منصة التتويج. قبل أيام، تحديداً يوم الأحد الماضي، عاد حسن الطالع ليرفرف هذه المرة في سماء "استاد ميستايا" في مدينة فالنسيا بمناسبة إياب الدور ربع النهائي من دوري الأمم الأوروبية 2025 حين التقت إسبانيا بهولندا بعد التعادل ذهاباً 2-2 في مدينة فيينورد. مباراة العودة انتهت 3-3 ليتجه الجانبان إلى ركلات الترجيح. وكما درجت العادة، فازت إسبانيا 4-5 وتأهلت لمواجهة فرنسا في نصف النهائي المقرر في يونيو المقبل في ألمانيا. قال قائل: "الحظ لا يعطي أبداً في العمل، بل يعير فقط"... مع استثناء إسبانيا.