وصلت الكرة من نيكلاس فولكروج إلى جمال موسيالا الذي لا يتوانى عن تسديدها قوية نحو مرمى الحارس أوناي سيمون. هدف! لا. قبضة المدافع مارك كوكوريا المتمركز داخل المنطقة تتدخل وتحرمها من استكمال المسار إلى الشباك.ركلة جزاء بالتأكيد. لا. فقد اختار حكم إنجليزيّ يدعى أنتوني تايلور عدم احتسابها. جريء ذاك "القاضي". رفض منح ركلة جزاء لأصحاب الأرض، الألمان، خلال مباراة ربع النهائيّ أمام إسبانيا، عندما كانت النتيجة تشير إلى التعادل 1-1. قرار صعب في هكذا حالة ضمن بطولة بمستوى "يورو 2024" التي تحتل المركز الثاني بعد كأس العالم لكرة القدم، على صعيد القوة والأهمية. إسبانيا استحقت الفوز لأنها كانت أفضل بقليل من ألمانيا، هذا رأي. الألمان تفوقوا باللياقة البدنية والرغبة، هذا رأي آخر. المهم أنّ تسديدة موسيالا التي نُفذت قبل 13 دقيقة على ختام المباراة بشوطيها الإضافيّين، مرت مرور الكرام. لم يكلف الحكم نفسه عناء مراجعة تقنية الحكم المساعد (VAR). حتى "حكام الغرفة" لم يستدعوه للتأكد من الحالة. لماذا؟ لا إجابة. إنها الدقيقة 119 قبل الأخيرة. ستدخل الموقعة "فقرة" ركلات الترجيح. لا. ميكيل مورينو يبصم على هدف فوز الـ"ماتادور" الذي أكمل الطريق نحو نصف النهائي، النهائي، فمنصة التتويج.زعامة أوروبيةماذا ترتب على هذا الانتصار؟ مدرب إسبانيا، لويس دي لافونتي، بات عبقريًا. "لاروخا" حققت لقبها القارّي الرابع بعد 1964 و2008 و2012، وفضت الشراكة مع ألمانيا على الزعامة الأوروبية. ماذا بعد؟ ولادة نجم صغير يدعى لامين جمال نجح في قيادة بلاده وهو في سن الـ17 إلى النقطة الأعلى من المنصة. الأهم من كل ذلك أنّ مدرسة اللعب الجميل التي فرضها الإسبان في البطولة، أثبتت بأنها ما زالت قادرة على إلحاق الهزيمة بالتحفظ والدفاع والخطط التكتيكية العقيمة. في المحصلة، ستبقى صورة القائد ألفارو موراتا وهو يرفع كأس هنري دولوني عاليًا في سماء "الملعب الأولمبي" في برلين، راسخة في ذاكرة التاريخ. طويت الصفحة، لكن يبقى سؤال في البال: ماذا لو عاد الحكم تايلور إلى الـ VAR واحتسب لمسة اليد ركلة جزاء استثمرها الألمان للتقدم 1-2 والفوز والمضيّ قدُمًا ربما نحو منصة التتويج؟ كلام لا يثمن ولا يغني من جوع، لأنّ صافرة الحكم الختامية اعتادت قتل أيّ نَفَسِ بقاء أو اعتراض، وإن كان محقًا. لملم الألمان جراحهم. أملوا بعودة أقوى إلى معمعة الصراع بعد سنوات عجاف. استحقوا، بلا شك، أكثر من رحيل عند عتبة دور الثمانية. مدرب منتخبهم، يوليان ناغلسمان، انتقد القرار التحكيميّ بعد مباراة شتوتغارت. إذ رأى أنّ "الحكم انحاز لمصلحة إسبانيا قليلًا... كانت ركلة جزاء واضحة. لو سدّد موسيالا الكرة باتجاه وسط مدينة شتوتجارت ولمسها كوكوريا، ما كنت لأرغب أبدًا بركلة جزاء. (لكن الكرة) كانت متجهة نحو المرمى". قرار الحكم و"VAR" لم يأتِ من فراغ، بل استند إلى تقارير تحليلية مدافعة عنه وإلى قاعدة تقول بأنّ ركلة الجزاء تُحتسب ضد اللاعب "إذا لمس الكرة بيده/ذراعه، وأن تكون اليد/الذراع جعلت جسمه أكبر من حجمه الطبيعي"، ما معناه أن تكون اليد أو الذراع بعيدة عن جسده. لهذا السبب، على نحو ما قبل وكُتب في حينه، لم يحتسب تايلور ومواطنه حكم الـ VAR ستيوارت أتويل ركلة الجزاء. الحكم الدولي الإنجليزيّ السابق مارك كلاتنبورغ الذي عمل خبيرًا تحكيميًا في شبكة "فوكس"، شدد، هو الآخر، على صحّة قرار مواطنيه. في المؤتمر الصحافيّ الذي سبق انطلاق البطولة، قدم رئيس لجنة الحكام في الاتحاد الأوروبيّ للعبة (يويفا)، الإيطاليّ روبرتو روزيتي، أمثلة محددة لعقوبات لمسة اليد، مُظهرًا في مقطع فيديو الكرة وهي تصطدم بذراع أحد المدافعين في وضع عموديّ بالقرب من الجسم. قال إنه في هذه الحالة لا تُحتسب ركلة جزاء، لأنّ الذراع قريبة من الجسم، ولم تمتد لتشكل ما يمكن اعتباره حاجزًا.عقدة إسبانيا ناغلسمان "مجرد مدرب". ليس بحكَم، لذا كان عليه ألا يتدخل في ما لا يعنيه. كان فقط يمنّي النفس بإعادة منتخب بلاده إلى حيث يستحق، وذلك في الاختبار الرسميّ الأول له معه. اعتُبر في النهاية بمثابة الطالب الذي ذاكر جيدًا، لكنه رسب في الامتحان. فشل يوليان في فك "عقدة إسبانيا" التي لازمت "ناسيونال مانشافت" في السنوات الأخيرة، وتحديدًا في نهائيّ "يورو 2008" ونصف نهائيّ مونديال 2010 ودوري الأمم الأوروبية 2020. جرى طي "صفحة مباراة 5 يوليو الماضي" إلى غير رجعة، لكنّ ألمانيا كانت ستسجل من ركلة الجزاء، وربما لن تُسجل. ستتقدم 1-2 لكن من يعلم؟ إسبانيا قد تعود. أراد توني كروس الاعتزال بعد منح بلاده اللقب الأوروبيّ الغائب منذ 1996، لكنّ البطولة اختتمت في 14 يوليو بتتويج إسبانيا على حساب إنجلترا. بكى من بكى وفرح من فرح. شيئًا فشيئًا، دخلت "يورو 2024" حيز النسيان. باتت بطولة مُكدّسة مع أخواتها السابقات في سجل ذاكرة المتابع... ليس لوقت طويل. فقد استفاق الاتحاد الأوروبيّ للعبة، واعترف بحقيقة أضافت مُلحَقًا لذكرى تلك البطولة المنتهية. متى؟ في 23 سبتمبر الجاري، بعد مضيّ أكثر من شهرين ونصف الشهر على "موقعة شتوتغارت". ما هو المعطى الجديد؟ "المنتخب الألمانيّ استحق ركلة جزاء أمام إسبانيا". موقع "ريفيلو" الإسبانيّ كشف بأنّ لجنة الحكام في "يويفا" أجرت تقييمًا وتحليلًا للتحكيم في "يورو 2024"، ونُقل عن فحوى التقرير أنّ "كوكوريّا لمس الكرة بيده، والحكم لم يحتسب ركلة جزاء في تلك الحالة، ولم تكن هناك مراجعة من جانب حكم الـ VAR، وهو الأمر الذي وصفه الاتحاد الأوروبيّ بالخطأ".مصداقية اللعبةلنتفق بدايةً على أنّ عنصر التحكيم هو الأهم في كرة القدم. مصداقية اللعبة قائمة على التحكيم. نسأل بعد فوات الأوان: ماذا استفاد الألمان من هذا الرأي المتأخر الذي ما ترك للشك مكانًا في أحقيتهم بركلة جزاء؟ نتحدث عن جناية حرمت طرفًا معينًا من حق أكيد وربما من لقب، ومنحت طرفًا آخر ما لا يستحق. أين كانت لجنة الحكام التي وضعت التقرير، خلال المباراة؟ كانت تسجل ملاحظات وتجمع معلومات؟ بماذا تفيد تلك المعلومات؟ هي مفيدة لمساعدة الحكام مستقبلًا؟ ما هو المستقبل؟ هو بطولات تُمنح على إثرها ألقاب. هذا يعني أنّ الأهم هو اللقب وليس أيّ أمر آخر. وها هي ألمانيا تُحرم من فرصة المنافسة المحقة، وها هي إسبانيا تنتهز فرصة ذهبية لصناعة التاريخ. طارت الطيور بأرزاقها. ماذا عن موقف "يويفا" من الطرف المظلوم؟ لسان حاله: "نحن متأسفون حقًا على حرمانك من فرصة ممكنة لصناعة التاريخ". أيعقل أن تقع هذه الفضيحة في زمن الـVAR؟ مؤامرة؟ هو خطأ كان من الممكن، لا بل كان يجب تحاشيه بغية إعطاء كل صاحب حق حقه. ادّعى البعض بأنّ فولكروج كان متسلّلًا قبل تمرير الكرة إلى موسيالا. الإعادة أكدت بأنه لم يكن كذلك. ولنفترض أنه كان، فهذا لا يبرر عدم الرجوع إلى الـVAR. وتبقى صور وهمية: الحارس والقائد الألمانيّ مانويل نوير يحضن كأس أوروبا. كروس خاتمًا كرة القدم بتحقيق اللقب الذي ينقص سجله الحافل. توماس مولر يطوي الصفحة بـ "تاج" عزّ عليه. ناغلسمان يحتفل كما طفل صغير بعد صافرة ختام المباراة النهائية. ربما كان لهذه الصور أن تصير واقعًا لو تواجدت لجنة الحكام في 5 يوليو في ملعب شتوتغارت، درست الحالة جيدًا وقررت منح موسيالا ركلة جزاء. لكن هذا لا يعقل. كيف نأتي باللجنة إلى كل مباراة؟ لوجستيًا هذا غير ممكن، أما الظلم فمباح. وقد تأخذ دراسة الحالة ساعة من الزمن وهناك نقل تلفزيونيّ سيتأثر سلبًا وجمهور سيفقد صوابه. هذا أيضًا غير ممكن، أما الظلم فمباح. في "يورو 2024"، توجت إسبانيا بعد أداء رائع. لم يكن ذنبها أنها حصلت على "هدية قيّمة". اليوم، انتهت المسرحية. وصل السيناريو الحقيقيّ والحوار الأصح، لكن بعد ختام العرض وإسدال الستارة. لا للعودة إلى الوراء وإن مات البطل "المفترض".. وعاش "بطل الصورة الختامية".