بحثت الأرجنتين طويلًا عن لقب مفقود في بطولة كأس العالم لكرة القدم. بين تتويجها الثاني في 1986 بقيادة الراحل دييغو مارادونا، والتتويج الثالث في 2022 بقيادة ليونيل ميسي، انتظرت 36 سنة كاملة قبل احتضان المجد الموعود.الانتظار دواءٌ لداء الحرمان أحيانًا.. شرطَ أن ينتهي بتحقيق المأمول. الأرجنتين تتسلح مجددًا بالانتظار، هذه المرة على حلبات سباقات "فورمولا 1"، وليس داخل "المستطيل الأخضر". 25 سائقًا مثّلوا "بلاد الفضة" في بطولة العالم لـ "الفئة الأولى" التي أبصرت النور في 1950. عدد مشجع في بلد يعشق هذه النوعية من السابقات، غير أنه اشتاق إلى هدير محركاتها الصاخبة منذ 1998، عندما توّج الألمانيّ ميكايل شوماخر بطلًا في سباق أخير لم يجد لنفسه نسخة تالية لأسباب اقتصادية. تعتز الأرجنتين بـ"عراقة" مستحقة في هذه الرياضة النخبوية. فقد بقي سائقها الأسطوريّ خوان مانويل فانجيو متمسكًا بالرقم القياسيّ لعدد مرات التتويج باللقب العالميّ لسنوات طويلة (5 ألقاب بين 1951 و1957) قبل ظهور شوماخر نفسه، والبريطانيّ لويس هاميلتون (7 ألقاب لكل منهما). لكنّ أحدًا لا يجرؤ على الاقتراب من فانجيو لناحية "فاعلية الفوز"، فقد حقق المركز الأول في 24 سباقًا من أصل 51 خاضها خلال مشواره، بنسبة انتصار بلغت 47.06 في المئة. بعد فانجيو، طافت أسماء أرجنتينية عدة على السطح، مثل كارلوس رويتمان الذي كان قاب قوسين أو أدنى من التتويج بلقب 1981، لولا الحظ الذي عانده في سباق لاس فيغاس الختامي، حين فتح المجال أمام البرازيليّ نيلسون بيكيت لخطف التاج العالميّ منه. تشهد اللائحة أيضًا سائقين مع إنجازات محدودة مثل خوسيه فرويلان غونزاليز، وأونوفري ماريمون، الذي يُعتبر "أول ضحايا فورمولا 1" بعدما توفي خلال تجارب سباق ألمانيا الكبرى 1954 على حلبة نوربرجرينج. آخر سائقي الأرجنتين كان جاستون ماتزاكاني الذي سجل عبورًا عابرًا في موسم 2001-2000.رحلة الانتظاراليوم، تبدو رحلة الانتظار وكأنها انتهت مع ظهور السائق الموهوب ابن الـ21 عامًا فرانكو كولابينتو. فقد اقتحم عالم "فورمولا 1" في 2024، إثر نيله ثقة حظيرة "ويليامز" ليمثل الفريق ابتداءً من سباق جائزة إيطاليا الكبرى في 1 سبتمبر الجاري خلفًا للأميركيّ لوجان سارجنت الذي خيّب الآمال ولم يحقق أيّ نقطة منذ انطلاق السلسلة في البحرين في 2 مارس الماضي. جاء اختيار كولابينتو بعد دراسة مطوّلة لأسماء عدة قبل حصوله على الأفضلية، خصوصًا أنه عضو "أكاديميّة ويليامز للناشئين". في سباقه الإيطاليّ الافتتاحي، أصبح أول أرجنتينيّ يوجد في "حلبات السرعة الفائقة" منذ 23 عامًا. لم يكتفِ بهذا الرقم العابر، بل نجح، في سباقه الثاني خلال جائزة أذربيجان الكبرى (15 سبتمبر)، في احتلال المركز الثامن وانتزاع أولى نقاطه (4) في البطولة. بات بالتالي أول أرجنتينيّ يحصد النقاط منذ رويتمان في 1982. اللافت أنه حلّ أمام هاميلتون الذي يتخذ منه مثالًا أعلى في هذه الرياضة، إلى جانب السائق الراحل أيرتون سينا. بدأت رحلة كولابينتو في رياضة السيارات وهو في التاسعة من عمره، عندما جلس خلف عجلة القيادة للمرة الأولى في سيارة الـ"كارت". أظهر إمكانات هائلة في مسيرته اليافعة. وبعد عامين ناجحين في "فورمولا 3" حقّق خلالهما أربعة انتصارات في السباقات القصيرة، ومركزًا رابعًا في بطولة 2023، تمّت ترقيته إلى "فورمولا 2" حيث عانى قليلًا في البداية، قبل أن يتحسن أداؤه في منتصف الموسم ويدخل المنافسة ويحقق فوزًا مثيرًا في السباق القصير في إيمولا (إيطاليا) بفضل تجاوزٍ جريء في اللفّة الأخيرة. كل هذا أدى إلى ولوجه عالم "فورمولا 1".شهرة واسعةحظي كولابينتو بشهرة واسعة بعد تصعيده إلى درجة إطلاق البعض عليه لقب "ميسي فورمولا 1"، وهو ما رفضه قائلًا: "من الصعب للغاية أن أشعر بأنني ليونيل ميسي. لا أعرف كيف هو الشعور بذلك". تابع: "في بعض الأحيان، أرى أنهم يقارنونني به وأقول لهم: أنتم مجانين. لا يمكنكم أن تفعلوا ذلك". وأضاف قبل خوض السباق الإيطاليّ في مونزا: "لا أتوقع الكثير. أريد فقط السير خطوة بخطوة والتركيز على نفسي وعلى مهمتي، وأن أكون قادرًا على القيام بما يتوقعه مني الفريق. ولأكون صادقًا، أنا أكثر من متأكد من أنني أستطيع القيام بذلك". والد كولابينتو كشف عن العلاقة التي تربط نجله بنجم إنتر ميامي الأميركي، ميسي (37 عامًا) الذي لم يتردد في دعم السائق الصاعد يومًا، وأكد بأنّ ابنه ينتظر لقاء "ليو" خلال سباق جائزة الولايات المتحدة الكبرى (20 أكتوبر المقبل) بعدما تبادلا الرسائل خلال الأشهر الماضية. وذكر أحد المواقع بأنّ ميسي أهدى كولابينتو الذي بات السائق الـ777 في تاريخ "الفئة الأولى"، قميص منتخب الأرجنتين حاملًا تواقيع أبطال العالم 2022. ولد كولابينتو في بيلار (بوينس آيريس) بينما أبصر ميسي النور في روزاريو (سانتا في). يشجع السائق اليافع فريق بوكا جونيورز، بينما يدعم ميسي فريق نيولز أولد بويز الذي نشأ في صفوفه. لا شيء مشتركًا سوى الجذور الإيطالية من جهة والد كل منهما. هل ثمة مؤشرات على إمكانية كولابينتو في اقتفاء أثر "أسطورة الملاعب" على "حلبات سباقات فورمولا 1"؟ سنظلم السائق الصاعد، لأنّ ميسي - الذي توّج بكأس العالم في محاولته الخامسة - لا يُقارن، ولأنّ كرة القدم لعبة جماعية لا تستلزم ممارستها الكثير، بينما تعتمد "فورمولا 1" على سائق واحد في رياضة تكلفتها لا تضاهى. يبقى على الأرجنتينيّين أن ينتظروا تطور "سفيرهم" في "الفئة الأولى" وتتويجه باللقب. سيطول انتظارهم، وسيعودون بالتأكيد إلى 36 سنة عاشوها بلا كأس عالم. سيكون لسان حالهم: ننتظر كولابينتو.. كما انتظرنا ميسي.