إقدام المراهق وهدوء الواثقدخل المباراة المصيرية مسلحًا بالثقة، وبالإصرار على تحدي خصومه، الذين اتفقوا تباعًا على إطلاق تصريحات تنتقص من شأنه، وتعتبره موهوبًا يفتقر للخبرة اللازمة لخوض تحديات كبرى، في تعبير ضمنيّ عن خشية متعاظمة من فنّياته ومهاراته العالية، التي تعلن للعالم ولادة موهبة كروية جديدة، لم يتجاوز عمرها السادسة عشرة بعد. فوجئ منتخبه بهدف مبكّر من الخصم، في الدقيقة التاسعة، فتبعثرت الأوراق، وصار من الصعب العودة في اللقاء، أمام منتخب منظم دفاعيًا، يصعب اختراقه.أما هو فقد حافظ على هدوئه، باحثًا فقط عن الفرصة المناسبة للرد، وبالفعل، لم تكد تمر عشر دقائق، حتى استلم الكرة، ودرس تموقع رفاقه ومنافسيه خارج مربع العمليات، قبل أن يقرر المراوغة، ثم التسديد.عودة إلى البدايةقبل أكثر من 30 عامًا، غادرت فاطمة مدينة طنجة، صوب إسبانيا، كما العديد من المغاربة الذين اختاروا الضفة الأخرى للمتوسط، بحثًا عن ظروف معيشية أفضل. كانت الوجهة مدريد، قبل أن تستقر في برشلونة، وتستقدم أبناءها وبناتها من المغرب. ولأنّ للغربة أثرها في تمتين الروابط بين المهاجرين، فقد مرت السنوات، ثم اختار منير، وهو أحد أبناء فاطمة، الزواج من شيلا، وهي مهاجرة قدمت أيضًا إلى إسبانيا من غينيا الاستوائية، فكانت ثمرة هذا الزواج ابنًا ولد يوم 13 يوليو عام 2007 في إيسبلوغاس دي يوبريغات، إحدى بلديات إقليم كتالونيا في منطقة برشلونة الإسبانية، وحمل اسم الأمين جمال نصراوي إيبانا، المعروف بـ لامين يامال. وهو طفل رضيع، أتت فرصة غريبة لالتقاط صورة، ضمن نشاط خيري، مع من يعتبره الكثيرون حاليًا أعظم لاعب على مر العصور: ليونيل ميسي، من دون أن يدرك أحد وقتها تلك الصورة قد تكون أشبه بخيط أريان، في متاهة البحث عن حقبة برشلونية مفقودة، منذ رحيل البرغوث الأرجنتيني.لم يستمر الزواج طويلًا، فانفصل الأبوان، وعاش الأمين مع والدته التي تدبرت أمرها بالعمل في مطعم للوجبات السريعة، أما الابن الذي كبر قليلًا، فلم يكن يميل كما أقرانه إلى كرة قدم الشوارع، بل كان يفضل الذهاب إلى ملعب حيّ روكافوندا، مقصد الأطفال العاجزين عن أداء رسوم الانخراط في النوادي. تمسك بفرصتكفي عام 2014، لاحت الفرصة لابن السابعة، لخوض اختبار مصيريّ في لاماسيا، مدرسة فريق برشلونة ذائعة الصيت، التي اشتُهرت بتخريج مواهب متميزة، كانت ذروتها جيل برشلونة الذهبي، الذي حصد الأخضر واليابس خلال فترة تدريب غوارديولا، ويصنفه كثيرون كأفضل فريق مرّ في تاريخ كرة القدم. ويبدو أنّ الأمين معتاد منذ صغره على تحدي الصعاب والتعامل معها بهدوء الكبار، إذ تمكن من تسجيل ثلاثة أهداف في هذا الاختبار، مثيرًا إعجاب كل من تابعه في ذلك اليوم. بدأ الأمين جمال، لامين لامال، مساره في أكاديمية برشلونة، وقد جمع بين كرة القدم والدراسة، مواصلًا نثر سحره في ملاعب الفئات السنية المختلفة، ما دفع أوسكار لوبيز، وهو مدرب في هذه الفئات، لترشيحه لمدرب الفريق الأول وأسطورته السابقة تشافي هرنانديز، الذي استدعاه إلى تدريب الفريق الأول مطلع موسم 2022-2023، ومنحه بالتالي الفرصة التي انتظرها. تدريجيًا، بدا أنّ "المراهق" الذي بالكاد أتم عامه السادس عشر، ليس لاعبًا عاديًا، بل موهوبًا ينتظره مستقبل حافل، فحطم كل الأرقام القياسية المتعلقة بسنّه، وساهم أكثر من مرة في صنع الفارق مع فريقه الكتالوني، الذي لا يعيش أفضل أحواله، ويبحث جاهدًا عن الخروج من دوامة أزماته الاقتصادية، وتراجع نتائجه المحلية والقارية، في ظل الهيمنة الواضحة للفريق الملكيّ ريال مدريد. أمل المستقبلواليوم، تصدّر اسم الأمين جمال، لامين يامال، كل الصحف العالمية، بعد تألقه في كأس أوروبا، ومساهمته في وصول الماتادور الإسبانيّ إلى نهائي المسابقة، وتسجيل هدف التعادل بطريقة رائعة في شباك المنتخب الفرنسي، مدوّنًا بذلك اسمه بحروف من ذهب، كأصغر من يسجل هدفًا في تاريخ البطولة، وهو الذي لم يكمل عامه السابع عشر، ما دفع فريق باريس سان جيرمان الفرنسيّ إلى عرض ما يزيد عن 250 مليون يورو على الفريق الكتالوني، للتخلي عن جمال، في صفقة قد تبدو مثيرة للغاية، لأنها ستحطم كل أرقام الميركاتو الصيفي، وقد تساهم في انتشال برشلونة من خطر الإفلاس والضياع، وإعادة ترتيب البيت الداخليّ للفريق المُنهك. لكن يبدو واضحًا أنّ مسؤولي برشلونة لن يفرّطوا في هذه الجوهرة، التي إن نالت الحظوة والاهتمام الكافي، فقد تمثل "حقبة جديدة" في تاريخ برشلونة، بل وربما كرة القدم عامة، كما تنبأ بذلك مدربه تشافي، الذي خرج من الباب الضيّق، بعد موسم مخيّب بلا ألقاب، وهذه طبعًا، قصة أخرى.