من عادتي اختيار الوقت المناسب للذهاب إلى المقهى، حيث أتجنب -ما أمكن- مواعيد بعض المباريات المهمة في الدوريين الإسبانيّ والإنجليزي، ولا أفكر مطلقًا في زيارتها عندما يخوض المنتخب الوطنيّ مباراة مهمة، لا لأنني غير شغوف بكرة القدم، ما دمت متابعًا حريصًا يبحث في الساحرة المستديرة عن منفذ هروب من الواقع (الشخصي أم العام؟ لا فرق!)، بل ربما لأنني أميل للمتابعة الهادئة، بعيدًا عن فورة الأدرينالين المبالغ فيها. وعلى هذا الأساس، ذهبت يوم الثلاثاء إلى "ركني" المفضل، باحثًا عن بعض الهدوء لكتابة مقال جديد، إلى أن فوجئت بتوافد جماهيريّ غير مألوف إلى المقهى، وتسابق الجميع على المقاعد، ثم رفع النادل صوت التلفاز، حيث أعلن المعلق انطلاق مباراة جديدة، لا هي لبرشلونة ضد ريال مدريد، ولا مانشستر سيتي ضد ليفربول، فهل أخطأت حساباتي هذه المرة؟"نزهة" لم تكن في محلهالم تكن المشاركة المغربية في كأس إفريقيا بساحل العاج في مستوى التوقعات الكبيرة (المبالغ فيها؟)، ولو أنني تحفظت منذ البداية على الآراء التي اعتبرت أنّ بطولة هذه السنة ستكون سهلة، عطفًا على الإنجاز المغربيّ الكبير ببلوغ نصف نهائي كأس العالم التي أقيمت في قطر نهاية عام 2022، فمن المعلوم أنّ الأجواء والظروف مختلفة بين البطولتين، وكذلك خطط المنافسين والمدارس الكروية، ما يعني أنّ فكرة خوض هذه البطولة باعتبارها "نزهة" لم تكن في محلها، لكنّ الجماهير كعادتها انجرفت وراء العاطفة والشحن الإعلامي، الذي يقتات حتى الآن على "الحلم" الذي عاشه كل المغاربة في مونديال قطر. ولأنّ السقف كان عاليًا، فمن الطبيعي أن تكون الصدمة قوية، مع خسارة المنتخب في دور الثمن على يد منتخب جنوب إفريقيا، وخروجه من الباب الضيّق، بعد سلسلة من الأحداث والاتهامات والمشاكل الجانبية التي أثّرت على تركيزه، ولا يتسع المجال للتفصيل فيها هنا.مباراة تحقيق "المستحيل" وكما هو مألوف، تجرّع المغاربة مرارة الإقصاء على مضض، وبحثوا عن التعويض، كما هو الحال مع إخفاقات رياضية سابقة، فكانت الوجهة كأس آسيا، مع تقدّم المنتخب الأردنيّ في البطولة، بقيادة المدرب المغربيّ الحسين عموتة، الذي تجاوز الدور الأول، ثم هزم العراق في مباراة مثيرة في الثمن، قبل أن يعبر طاجيكستان، ويصل بالنشامى إلى نصف النهائي لأول مرة في تاريخه، ويخوض مباراة صعبة أمام خصم كوريّ متمرس، يقوده نجم توتنهام هيونغ مين سون، فما كان من المغاربة إلا التوافد إلى المقاهي، بما فيها "ركني" الهادئ الأثير، لمتابعة مباراة تحقيق "المستحيل" والوصول إلى النهائيّ الأول في تاريخ هذا المنتخب، الذي شجعه المغاربة بكل حماسة.لم يكن أشد المتفائلين في الأردن، أو حتى "خبراء" تحليل عوالم الكرة حول العالم، ليتوقعوا بلوغ منتخب النشامى هذا الإنجاز، خصوصًا مع عدم تحقيق المنتخب لنتائج إيجابية في المباريات الإعدادية، والهزيمة القاسية أمام اليابان بستة أهداف، التي دفعت الجماهير إلى مهاجمة عموتة واختياراته، بل وطالبت بإقالته قبل انطلاق البطولة في قطر، لكنّ الجماهير نفسها تتغنى به اليوم، مشيدة بذكائه وبراعته في ابتكار الخطط لمواجهة الخصوم واستغلال ظروف كل مباراة وتوجيه دفتها لصالحه، لتثبت مرة أخرى قدرتها المدهشة على النسيان (واسألوا غوستاف لوبون !)، فيما أكدت كرة القدم من جديد استقلالية منطقها عن أيّ منطق فلسفيّ آخر، فأن تخسر مرة بستة أهداف لا يعني أبدًا الاستسلام، كما أنّ بلوغك نصف النهائيّ في بطولة سابقة، لا يعني أنّ بطولة أخرى "في الجيب".