عادت عجلة معظم الدوريات الأوروبية لكرة القدم إلى الدوران وفُتح باب الانتقالات الشتوية على مصراعيه وكأن شيئاً لم يكن، وكأن الرياضة الأكثر شعبية لم تعش قبل أسابيع مفترقاً خطيراً كاد أن يودي بها في "القارة العجوز" تحديداً.فقد قضت محكمة العدل الأوروبية في 21 ديسمبر الماضي بأحقية الأندية في تأسيس دوري السوبر الأوروبي (سوبر ليغ)، مؤكدة بأن الاتحادين الدولي (فيفا) والأوروبي للعبة (يويفا)، خالفا قانون المنافسة بمنع ظهور البطولة في أبريل 2021. البعض اعتبر بُعيد حكم المحكمة، وتحديداً عرّاب الفكرة، رئيس نادي ريال مدريد الإسباني، فلورنتينو بيريز، بأنه حقق انتصاراً، قائلاً: "إنه يوم استثنائي في تاريخ كرة القدم"، لكن السؤال الذي يفرض نفسه هو: هذا الانتصار تحقق على حساب مَن وهل انطلقت البطولة المزعومة حقاً؟ قامت فكرة "سوبر ليغ" على أساس الحلول مكان دوري أبطال أوروبا التي تُنظم من قبل الاتحاد الأوروبي للعبة. وبما أن السواد الأعظم من أندية القارة تمسك بالبطولة الراهنة رافضاً الخروج عن طوع "يويفا"، فإن انتصار بيريز يبقى وهمياً. لا يمكن تخيّل نجاح بطولة تخص الأندية الأوروبية في ظل غياب "الكبار" وخصوصاً ممثلي الكرة الإنكليزية حيث رفضت رابطة الدوري الممتاز "الانشقاق" بعد درس عام 2021 عندما التحق عدد من عمالقتها بالمشروع لأيام قبل الانسحاب منه تحت وطأة الضغوط الجماهيرية والسياسية، بالإضافة إلى عدد كبير آخر من الأندية في سائر الدول الأوروبية.جسّ نبضربما جرى "رمي" الفكرة في 2021 لجسّ نبض الشارع قبل اقتحام مندرجات المشروع بيد أن "سوبر ليغ" خسرت مرتين في غضون سنتين في ظل رفض قاطع من ألمانيا وإيطاليا وفرنسا وأندية من إسبانيا (باستثناء ريال مدريد وبرشلونة) لدخول "المغامرة". صحيح أن الأموال الموعودة في "البطولة التي ولدت ميتة" من شأنها أن تسيل لعاب أيّ كان، وصحيح أيضاً أن شركة A22 المنظمة وعدت بالكثير من المميزات، غير أن الأمور بقيت على حالها في ظل عدم اعتراف بيريز بالتحديد بالخسارة، ربما لأن التقارير أشارت إلى أن ريال مدريد وبرشلونة سيحصلان على مليار يورو نظير المشاركة في "سوبر ليغ"، لذا وجب البقاء في فلكها. واللافت أن ريال مدريد صنع اسمه ومجده على حساب دوري الأبطال، المسابقة التي يتزعمها بـ 14 لقباً قياسياً، وها هو فريقه يسعى في الموسم الراهن إلى رفع رصيده إلى 15 لقباً. فكيف تقبل هنا ما ترفضه هناك؟خارطة طريقلا شك في أن بيريز وA22 فشلا في التخطيط للمشروع وتبني خارطة طريق ناجحة، إذ كان الأجدى دراسة الخطوات بتمعّن وتوحيد كلمة الأندية أولاً، والابتعاد عن طرح الفكرة والدعوة إلى المشاركة من دون الوقوف على عدد الموافقين وموقف الجماهير والجانب السياسي. كان المشروع عبارة عن فوضى عارمة منذ 2021 إذ ليس بهذا الأسلوب يمكنك إغواء الأندية لتجاوز دوري الأبطال الذي نشأ بينه وبين الجماهير علاقة متينة للغاية تمتد من العام 1956، وإذا كان بيريز يرمي إلى تشكيل ضغط معين على الاتحاد الأوروبي لزيادة المكافآت المخصصة للأندية، فإن المحاولة فشلت أيضاً لأن "يويفا" مرّ على موقف محكمة العدل الأوروبية مرور الكرام لأن الأهم، وهو الأندية، وقف معه في وجه احتمالية عودة الحديث عن الالتحاق بـ"سوبر ليغ". لكن يبدو بأن هذه البطولة ما زالت تستنشق الهواء من تحت التراب، ويسعى القيّمون عليها إلى بث "أوكسجين البقاء" فيها وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة. وهنا يأتي دور الاتحاد الأوروبي في مواجهة "سوبر ليغ" أو غيرها من البطولات التي قد تُقترح مستقبلاً. ماذا فعل "يويفا"؟ حتى الساعة لا شيء، إذ يتسلح بالجماهير والقرار السياسي، لكن كل ذلك قد يتغيّر في غضون سنوات في ظل الارتفاع المهول لأسعار اللاعبين وطمع وكلائهم وتكلفة تشغيل الملاعب والمرافق. قد تصل الأندية بعد سنوات إلى مكان تضع فيها جماهيرها أمام واقع يلزمها البحث عن مصادر أكبر للأموال كي تستمر في ظل توافر بطولات قادرة على تغذيتها بمبالغ لا تقارن بما يمنحه الاتحاد الأوروبي.إصلاحات غير كافيةسيشهد الموسم المقبل 2025-2024 تعديلاً على نظام دوري الأبطال. سُمّيَت إصلاحات غير أنها بعيدة كل البعد عن هذه التسمية. قرر الاتحاد الأوروبي رفع عدد مباريات الأندية في الدور الأول (دور المجموعات) من 6 إلى 8 بهدف زيادة مردود البث التلفزيوني على سبيل المثال. لكن هل هذا يكفي؟ تقارير غير رسمية أشارت إلى أن الاتحاد القاري بصدد إدخال تغيير أكبر لكن ذلك لا يطمئن الأندية الكبيرة التي يجب على "يويفا" أن يعي بأنها أساس بطولته الأم وأن عليه إقحامها في القرار، المالي تحديداً. على الاتحاد الأوروبي أن يعي بأن زمن فرض القرارات والإصلاحات قد ولّى وأن عليه التعاطي مع الأندية كشركاء وليس كمنتسبين. الفترة الراهنة تشكل فرصة أمام "يويفا" للتحرك من موقع قوة، ويجب عليه استغلالها قبل أن تعود الكأس المرّة لـ"سوبر ليغ" مرة جديدة وتفرض عليه التحرك تحت الضغط خصوصاً أن ظروف اليوم قد تختلف عن ظروف الغد، وما كان مرفوضاً اليوم قد يصبح مقبولاً في الغد. بيريز لم يقرّ بالهزيمة حتى الساعة، والداعمون له تحدثوا عن تحرير الأندية من "يويفا"، لكن الرجل يعي بينه وبين نفسه بأنه خسر معركة لكنه لم يخسر حرباً.