في ليلة شتوية بالعاصمة السورية، تجمع المئات في ساحة بدمشق القديمة للرقص والغناء في أمسية موسيقية أُقيمت بموافقة السلطات الجديدة التي يقودها "الإسلاميون".ذلك المشهد بتفاصيله هو ما كان المغني محمود الحداد يخشى زواله مع تقدم قوات المعارضة بقيادة "هيئة تحرير الشام"، التي كانت معروفة بتشددها، نحو المدينة في ديسمبر.قال الحداد "حسب إللي كنا عم نسمعه الكل كان متخوف... إنه كان معقول نقدر نعمل حفلة أو ما نقدر نعمل حفلة؟!".وكتب سقوط بشار الأسد نهاية فصل في التاريخ السوري حكمت فيه عائلة الأسد وحزب البعث العربي العلماني البلاد بقبضة من حديد لـ50 عاما.أفسح هروب الأسد وسقوط نظامه الطريق لصعود "هيئة تحرير الشام" بقيادة الرئيس أحمد الشرع، الذي كان يقود فرع تنظيم القاعدة خلال الحرب الأهلية بسوريا حتى الانفصال عن التنظيم ومفارقته تماما في 2016.وتباين نهج الجماعات الإسلامية الحاكمة في التعامل مع أشكال التعبير الفني والتراث الثقافي.استئناف الأنشطة الثقافيةكانت حركة طالبان في أفغانستان من بين الأكثر تشددا، إذّ فاجأت العالم في 2001 بتفجير تمثالين ضخمين لبوذا في باميان. وفي 2024، أعلنت وزارة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حكومة طالبان أنها دمرت 21328 آلة موسيقية خلال العام السابق.لكن الأحداث أثبتت خلال الفترة الماضية أن النظرة للحياة الثقافية في سوريا مختلفة عنها في أفغانستان. فقد بدأت الأنشطة الثقافية في العودة بعد فترة وجيزة من الانقطاع أعقبت سقوط الأسد، بموافقة من السلطات الجديدة.وقبل أن يستأنف الحداد حفلاته الموسيقية بمطعم بيت جبري في يناير، سعى لاستكشاف موقف السلطات الجديدة أولا، وقال "نحن عملنا يلي علينا ونزلنا سألنا فكان الجواب مفاجئ بالنسبة لنا إنه أعملوا حفلتكم وإذا كان بدكن حماية نبعث لكم".وقال أنس زيدان من الإدارة المؤقتة المسؤولة عن المتاحف والآثار لرويترز إن القيادة الجديدة ترحب بالفن بجميع أنواعه وكافة أشكاله.وأضاف "الحكومة ليست ضد الفن. الحكومة تشجع الفن. الفن جزء من الإنسان. والحكومة بالعكس هي تنشط وتدافع وتساهم".وأُعيد الشهر الماضي افتتاح معرض في المتحف الوطني بدمشق لفنانة شهيرة، وكان من بين اللوحات المعروضة أعمال فنية تحتوي على أجسام عارية.وفي المعهد العالي للفنون المسرحية استأنف طلاب الرقص المعاصر التدريبات. كما قدمت الفرقة السيمفونية الوطنية السورية أول حفل لها منذ سقوط الأسد، الذي كان يقود دولة بوليسية تسمح بمساحة للفن والثقافة لا تتعارض مع نظام حكمه.وبرزت الهوية الإسلامية لحكام سوريا الجدد منذ بداية التحرك نحو الجنوب وصولا إلى دمشق في ديسمبر. وبدا ذلك واضحا، على سبيل المثال، من خلال تدريب المجندين للانضمام لقوة الشرطة الجديدة على ضوابط الشريعة الإسلامية والتأكيد على الهوية الإسلامية في تعديلات مقترحة للمناهج الدراسية.وأدت وقائع طائفية، منها إحراق شجرة لعيد الميلاد في مدينة حماة بغرب سوريا في هجوم نددت به القيادة الجديدة فورا وملصقات تحث النساء على ارتداء الحجاب، إلى إثارة التوتر بين الأقليات السورية وغيرهم من أصحاب التوجهات العلمانية.تحول أيديولوجيأكد الشرع، الذي تولى في يناير رئاسة سوريا لفترة انتقالية، على التعددية والتنوع في وقت يحاول فيه تثبيت حكمه ويسعى للحصول على اعتراف دولي من الحكومات العربية والغربية التي قد يقلقها أي انزلاق نحو التطرف.وقال المحاضر في الدراسات الإسلامية بالجامعة الوطنية الأسترالية، آندرو هاموند، إن هذا النهج يشير إلى أن السلطات مستعدة لتحدي الجناح المتشدد الذي ينظر للفنون باعتبارها مضيعة للوقت وأداة تغذي السلوكيات غير السوية، مضيفا أن هذا التباين في النظرة للفنون قد يتحول إلى نقطة خلاف.وأضاف أن التيار المتشدد غالبا ما يعارض الموسيقى وتجسيد البشر في الأعمال الفنية بشكل خاص.وأوضح أن أساليب القيادة الجديدة تعكس كذلك ما يبدو أنه تحول أيديولوجي من عقيدة الجهاد العابر للحدود إلى شكل أكثر اعتدالا من الإسلام السياسي القومي الذي يركز على سوريا، في تناغم مع النمط أو النهج المعروف للجماعات الإسلامية في الدول العربية الأخرى مثل مصر والأردن وتونس، فضلا عن تركيا.وتوقع هاموند ألا تتبنى الإدارة الجديدة سياسات متطرفة يمكن أن تنفّر منها الدول الغربية والإقليمية، فضلا عن العديد من السوريين أنفسهم.وقال "هذا هو الاتجاه الذي تسير فيه سوريا، وهو مرحِّب تماما بالفنون... قد يكون هناك من يعارضونها... ولكن لن يتم وقفها أو حظرها".وفي إدلب تحت حكم "هيئة تحرير الشام"، كان تشغيل الموسيقى الصاخبة في السيارات يقابل في وقت من الأوقات باللوم والتقريع عند نقاط التفتيش، وكان تدخين النرجيلة (الشيشة) محظورا، وكثيرا ما كانت رؤوس تماثيل عارضات الأزياء تزال أو تحجب بغطاء في واجهات المتاجر، في انعكاس للنفور من تصوير هيئة البشر.خففت "هيئة تحرير الشام" من جهودها لفرض السلوك المحافظ في إدلب قبل عدة سنوات، وسحبت شرطة الأخلاق من الشوارع، وهو جزء مما يراه الخبراء تحولا تدريجيا نحو التيار المجتمعي الرئيسي ونمط الحياة السائد.قالت الفنانة السورية سارة شمة إن بعض الفنانين ساورهم القلق من التضييق على حرية الإبداع، وأضافت لرويترز "ظنوا أن البعض قد لا يتقبل النحت أو الفنون التصويرية"، في إشارة إلى المنحوتات والرسومات التي تصور البشر والحيوانات.وأضافت "لكن لم تحدث مثل تلك الأمور"، موضحة أنها تشعر بالتفاؤل إزاء المستقبل."علامة طيبة.. حتى الآن"في نوفمبر قبل الإطاحة بالأسد افتُتح معرضها الاستعادي بالمتحف الوطني في دمشق الذي حمل عنوان (سارة شمة: أصداء 12 عاما)، وكان أول معارضها في سوريا منذ أن غادرت في أوائل 2012 مع اندلاع الحرب الأهلية. وضم المعرض أعمالا من كل عام قضته بعيدا عن بلدها.أُغلق المتحف لمدة شهر بعد الإطاحة بالأسد قبل أن يفتح أبوابه من جديد في يناير ويواصل عرض أعمالها البالغ عددها 27 عملا فنيا.قال الخبير في شؤون "هيئة تحرير الشام" في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، آرون زيلين، إن الحكام الجدد في سوريا "يحاولون تجنب إثارة المشاكل مع أي شخص في الوقت الذي يعززون فيه سيطرتهم".وأضاف أن الهيئة في إدلب "أدركت أن عليها أن تعمل ضمن الواقع الاجتماعي بدلا من محاولة فرض شيء بطريقة قد تسبب رد فعل عنيفا".ومضى زيلين قائلا "السؤال هو هل عندما تستقر لهم الأمور بما يكفي، فهل سيغيرون الأوضاع أو يلغون أنواعا معينة من الأنشطة التي يعتبرونها غير متسقة مع نظرتهم للعالم".وأضاف "حتى الآن هي علامة طيبة".(رويترز)