مع استمرار المعارك في ليبيا منذ أكثر من 10 سنوات، تتصاعد التحذيرات من تأثير هذه الحرب على النهر الصناعي العظيم، الذي أنقذ ليبيا من العطش خلال العقود الماضية.ويرى تقرير لمعهد الشرق الأوسط في واشنطن أن "الصراع السياسي والحرب الأهلية التي تشهدها البلاد منذ أكثر من عقد من الزمان والجفاف يهددان مستقبل النهر".وخلص التقرير، الذي أعدته الباحثة الليبية ملاك التائب، إلى أن الحرب وحالة عدم الاستقرار السياسي أثرت على المشروع، وأوقفت استكمال المرحلتين الثالثة والرابعة منه. كما اضطرت العديد من الشركات الأجنبية المسؤولة عن صيانة النهر الصناعي العظيم بالانسحاب تباعا في الـ10 سنوات الأخيرة، بسبب الحرب الأهلية في البلاد.فما هو النهر الصناعي العظيم في ليبيا، الذي يُعدّ أعجوبة العالم الثامنة؟ وما أبرز الحقائق عنه؟ما هو النهر الصناعي العظيم؟هو عبارة عن شبكة واسعة من الأنفاق وخطوط الأنابيب والقنوات التي تنقل المياه الجوفية العذبة من تحت الأرض في أعماق الصحراء إلى الساحل الليبي؛ لاستخدامها في عمليات الشرب والزراعة والصناعة، بحسب الموسوعة البريطانية.ويُعدّ هذا النهر الصناعي في ليبيا أضخم مشروع لنقل المياه في العالم، ويُطلق عليه "أعجوبة العالم الثامنة".وتعتمد فكرة المشروع على ضخ كميات كبيرة من المياه الجوفية الموجودة في صحراء ليبيا الجنوبية إلى المدن الساحلية عبر أربع أنابيب ضخمة، تعادل ضعف كمية المياه المتدفقة من نهر التايمز، الذي يمر بوسط العاصمة البريطانية لندن. تاريخ النهر الصناعي العظيمفي عام 1953، أثناء عمليات التنقيب عن النفط في الصحراء الليبية، اكتشفت شركات التنقيب كميات كبيرة من المياه الجوفية في الصحراء الجنوبية. هذه المياه متجمعة في خزان الحجر الرملي النوبي في الصحراء الليبية منذ ما يقرب من 38 ألف سنة.وبحسب دراسات الجدوى، توجد 4 أحواض رئيسية تحت الأرض. يغطي أحد هذه الأحواض، وهو حوض الكفرة، الواقع في الجنوب الشرقي بالقرب من الحدود المصرية، مساحة 350 ألف كيلومتر مربع، ويحتوي على طبقة من المياه الجوفية على عمق يزيد عن 2000 متر، وتقدر سعته بنحو 20 ألف كيلومتر مربع في القطاع الليبي.ويُقدر أن طبقة المياه الجوفية التي يبلغ عمقها 600 متر في حوض سرت تحتوي على أكثر من 10000 كيلومتر مربع من المياه. في حين أن حوض مرزق، الذي تبلغ مساحته 450 ألف كيلومتر مربع جنوب جبل فزان، يحتوي على أكثر من 4800 كيلومتر مربع من المياه.وبدأ التفكير في كيفية استخدام هذه المياه ونقلها إلى المدن الساحلية، موطن الغالبية العظمى من سكان البلاد، حيث يعيش 78.2٪ من الليبيين في المناطق الحضرية، أي ما يعادل 5.38 مليون شخص من إجمالي 6.8 مليون في عام 2020، منذ نهاية خمسينيات القرن الماضي.ومع تولي العقيد معمر القذافي، مقاليد الحكم في السلطة عام 1969، بدأ التركيز على الإعداد لنقل هذه المياه الجوفية عبر نهر صناعي إلى مدن الشمال، بدلا من الاعتماد على عملية تحلية مياه البحر المكلفة، لإنقاذ ليبيا من العطش.ووضع تصور للمشروع لأول مرة في أواخر الستينيات، وأجريت دراسات الجدوى الأولية في عام 1974، وبدأ العمل بعد عشر سنوات.وفي 3 أكتوبر 1983، أعلن القذافي أنه سيبني نهرا صناعيا عظيما سينقذ ليبيا من كارثة العطش. وفي 28 أغسطس 1984، وضع القذافي حجر أساس المشروع. مراحل بناء النهر الصناعي العظيموضعت الدراسات خمس مراحل لإتمام المشروع، هذه المراحل هي: المرحلة الأولىفي عام 1984، تم حفر مئات الآبار في حقلي تازر بو وصرير، حيث نُقلت المياه من على عمق 500 متر (1650 قدما) إلى خزان في أجدابيا، والذي وصلته المياه لأول مرة في عام 1989.ومن خزان أجدابيا نُقلت المياه في اتجاهين، غربا إلى مدينة سرت، وشرقا إلى مدينة بنغازي.وفي عام 1991، احتفلت الحكومة الليبية رسميا بإنجاز المرحلة الأولى من المشروع..وتنقل هذه المرحلة مليوني متر مكعب من المياه يوميا عبر حوالي 1600 كيلومتر من خط الأنابيب المزدوجة من آبار المياه العذبة الجوفية في الجنوب إلى المدن في الشمال على الساحل.المرحلة الثانيةتم تدشين المرحلة الثانية من المشروع في عام 1996، والتي تهدف إلى تزويد مدينة طرابلس غربي البلاد بالمياه.وتستمد المرحلة الثانية المياه من ثلاثة حقول آبار في منطقة جبل الحساونه، حيث يتم ضخ المياه من قصر الشويرف إلى مدينة ترهونة في منطقة جبل نفوسة، ومنها يتدفق بالجاذبية إلى سهل الجفارة.ويمتد خط أنابيب آخر شمالاً وشرقاً إلى الساحل، ثم يتجه نحو الغرب ويزود مدينة مصراتة والخمس قبل أن ينتهي في طرابلس.وتنقل المرحلة الثانية نحو 2.5 مليون متر مكعب (حوالي 90 مليون قدم مكعب) من المياه يوميا. المرحلة الثالثةتم الانتهاء من المرحلة الثالثة من المشروع في عام 2009، وتضمنت إضافة 1200 كيلو مترا من خطوط الأنابيب للمشروع.وتنقسم المرحلة الثالثة إلى جزئين: الجزء الأول هو توسعة المرحلة الأولى من النهر، وإضافة محطات الضخ الجديدة وزيادة خطوط الأنابيب بمقدار 700 كيلو متر، لزيادة إجمالي قدرة الإمداد اليومية للنظام الحالي إلى 3.68 ملايين متر مكعب.أما الجزء الثاني فقد تضمن إضافة 500 كيلو متر للمرحلة الثانية من المشروع مما أدى إلى تدفق 138 ألف متر مكعب إضافي (4.9 ملايين قدم مكعب) يوميا لطبرق من الآبار في واحة الجغبوب، واستلزم بناء خزان جنوب المدينة.المرحلتان 4 و5وتتضمن المرحلتان الرابعة والخامسة تمديد النهر جنوبا إلى حقول الآبار في منطقة الكفرة. بالإضافة إلى مد خط أنابيب من الآبار التي تقع بالقرب من غدامس إلى مدينتي الزاوية والزوارة غربي طرابلس.كما تتضمن المرحلة الأخيرة تمديد خط أنابيب يربط بين المرحلتين الأولى والثانية من المشروع.أرقام وحقائق عن المشروعيصل طول جميع خطوط النهر حوالي 4000 كيلومتر (2500 ميل) من خطوط الأنابيب.تصل كمية المياه التي ينقلها النهر يوميا حوالي 6.5 ملايين متر مكعب (230 مليون قدم مكعب) من المياه يوميا.يوفر النهر نحو 70٪ من إجمالي المياه العذبة المستخدمة في ليبيا.بلغ عدد الآبار التي تم حفرها في المشروع نحو 1300 بئر، لتوفر ألف لتر من المياه لكل مواطن تقريباً.طول الأنبوب الواحد يصل طوله إلى 7.5 متر وقطره 4 متر، ويتراوح وزنه 73 - 80 طن.يفوق مجموع أعماق الآبار التي تزود النهر بالمياه ما يزيد عن قمة أفرست بـ70 مترٍ.بلغت كمية الأسمنت المستخدم في صناعة أنابيب النهر حوالي 5 ملايين طن، وهو ما يكفي لرصف طريق من مدينة سرت الليبية إلى مدينة مومباي الهندية.ناتج حفر الأنفاق في النهر تكفي لإنشاء 20 هرما بحجم هرم خوفو، الهرم الأكبر في مصر.طول الأسلاك الفولاذية المستخدمة في تصنيع الأنابيب المستخدمة في المشروع تكفي للالتفاف حول كوكب الأرض 280 مرة.ناقلات الأنابيب قطعت مسافة تعادل المسافة بين الأرض والشمس ذهابا وإيابا.بلغت تكلفة المشروع نحو 35 مليار دولار. تعتبر الخزانات المفتوحة التي يعتمد عليها النهر الصناعي بحيرات صناعية محفورة من التربة والصخور ومبطنة بالأسفلت.قٌطر أكبر خزان في المشروع يزيد عن كيلو متر، ويحتوي على 24 مليون متر مكعب من المياه.طول منظومة نقل الأنابيب 3500 بلغ حوالي كيلو متر، منتشرة في مساحة تعادل مساحة غرب أوروبا.النهر الصناعي العظيم بعد ثورة 2011طوال عهد الرئيس السابق، معمر القذافي، حظي النهر بمكانة فريدة عند الليبيين، لكنه خسر هذا الاهتمام بعد مقتل القذافي في عام 2011. وعلى الرغم من أن إدارة النهر الصناعي تمكنت من النأي بنفسها عن الاضطرابات السياسية في البلاد من خلال التأكيد على دورها كمزود للخدمات، فقد واجه المشروع العديد من الهجمات على الممتلكات وأعمال التخريب على مدار العقد الماضي.وبسبب الحرب، لم تكتمل بعد المرحلتين الثالثة والرابعة من برنامج إدارة الموارد البحرية وتأخر تشييدهما نتيجة للهجمات على مواقع الشبكات. ولم تتمكن الشركات العالمية المسؤولة عن المشروع استئناف عملها بسبب المخاوف الأمنية المستمرة.منذ الثورة، كان هناك عدد من حالات الاختطاف المبلغ عنها من أفراد هذه الشركات عندما حاولت مواصلة العمل، ونتيجة لذلك انسحبت العديد من الشركات في النهاية تماما.وفي 22 يوليو 2011 هاجمت طائرات الناتو مصنعا لتصنيع الأنابيب في البريقة مما أسفر عن مقتل ستة من حراس أمن المنشأة. وزعم الناتو أن المبنى كان يستخدم كمخزن عسكري وأن الصواريخ أطلقت من هناك من قبل القوات الموالية للقذافي. جاء الهجوم بعد وقت قصير من تحذير ليبيا من أن الضربات الجوية التي يقودها الناتو يمكن أن تتسبب في "كارثة بشرية وبيئية" إذا دمرت الضربات الجوية مشروع النهر الصناعي العظيم. وتشير التقارير إلى أن الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية لم تكن خطيرة بما يكفي لإيقاف النهر تماما من الجريان. هل سيجف النهر الصناعي العظيم؟يزعم بعض المسؤولين الليبيين، مستشهدين بالحجم الهائل للخزانات الجوفية، أن الخزانات يمكن أن تستمر في توفير المياه لآلاف السنين.لكن المحللين اعتبروا أن مثل هذه الادعاءات مبالغ فيها إلى حد كبير؛ ويصر بعضهم أن مخزونات المياه الجوفية في الصحراء الليبية، والتي يتم نقلها إلى الساحل عبر النهر قد تنتهي خلال القرن الحادي والعشرين.ويؤكد الباحثون أن نظام خزان الحجر الرملي النوبي الذي يعتمد عليه النهر لا يتجدد بالمياه، وبالتالي فإن إمداداته المائية محدودة.وتشتهر منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بندرتها الشديدة في المياه. ويعود نقص الموارد المائية في المنطقة إلى العديد من العوامل، بما في ذلك المناخ القاسي ومعدلات التبخر العالية وزيادة النمو السكاني.وليبيا ليست استثناء في هذا الصدد، فهي تحتل المرتبة السادسة بين الدول الأكثر عرضة للإجهاد المائي، وفقًا لمعهد الموارد العالمية.ولا يوجد في ليبيا مخزون طبيعي من المياه، مثل الأنهار، وبالتالي تعتمد بشكل كبير على طبقات المياه الجوفية، وفي حالة نفاد إمدادات المياه الجوفية سيجف النهر، وستواجه ليبيا ندرة حادة في المياه، ما لم يتم إنشاء بنية تحتية كافية لتحلية المياه.(المشهد)