خلال الأشهر الأخيرة، انتشرت عبارة "فقدان الشغف" في تغريدات وتدوينات الشباب العربي على مواقع التواصل الاجتماعي. ورغم أن البعض تعامل مع هذه الكلمة بسخرية، إلا أن الإحصائيات العالمية ترد جزءا كبيرا من حالات الانتحار بين الشباب إلى اليأس وفقدان الشغف بالحياة.انتحار الشباب ظاهرة مهمة يجب التوقف عندها طويلا، والبحث عن حلول واقعية لها. خصوصا إذا طالعنا الأرقام الرسمية التي تقول إن أكثر من 703 آلاف شخص حول العالم يقررون إنهاء حياتهم كل عام بأيديهم، وغيرهم الكثير ممن يحاولون الانتحار أو يفكرون به.والمقلق هو أن أكثر من نصف هذه الحالات (58%) يحدث قبل سن الـ50، ما يُسلط الضوء على أن فئة الشباب هي الأكثر إقبالا على الانتحار.الانتحار.. لا يُولد بلحظةيُعرف الدكتور محمد المهدي، أستاذ الطب النفسي في جامعة الأزهر، خلال حديثه لمنصة "المشهد" الانتحار بأنه "سلوك متعدد الدوافع ينشط حين يختل التوازن بين غريزتي الحياة والموت"، موضحاً أنه "لا يُولَد في لحظة تنفيذه أو محاولة تنفيذه، وإنما يكون رابضاً كخيار في طبقات الوعي الغائرة إلى أن ينشط في ظروف بعينها، ليكون الخيار الوحيد الذي يراه الشخص في تلك اللحظة".ويعدّد المهدي أسباب الانتحار، ما بين ظروف اجتماعية واقتصادية ونفسية بما تضمه من اكتئاب ويأس وفقدان للشغف، لكن في الحالة التي تحدثت إليها "المشهد"، تعود أسباب محاولة الانتحار إلى سببين رئيسيين، الفشل في العلاقات العاطفية، والشعور بالوحدة.لذا عندما سألنا أحمد عبد السلام، عن القصة وراء محاولته الانتحار، بدأ سرد الحكاية منذ أن قرر أن يغادر مدينته الأقصر (جنوب مصر)، والانتقال للحياة في القاهرة للعمل والإقامة. لم يكن لديه أصدقاء أو أقارب، لذا لم يفعل شيئاً في المرحلة الأولى من حياته الجديدة إلا العمل، ومع الوقت باتت لديه مجموعة من زملاء وأصدقاء، حتى دخل بعد عام في علاقة عاطفية مع فتاة، وبينها وبين عمله انغلقت دائرة حياته.قرار الانتحار.. نقطة تحولنقطة الانعطاف الرئيسة في قصة أحمد، كانت عندما تحوّل حبّه إلى إدمان، وعندما خرجت الفتاة من حياته لم يعد يعرف ماذا يفعل، يقول: "كان مطلوباً مني أن أكمل حياتي، ولم أستطع.. كنت أخرج من العمل ولا أعرف ماذا أفعل بعد ذلك لأن دائرتي أصبحت فارغة، استقلت من عملي، وأهملت صحتي حتى وصل وزني إلى 49 كلغ، ولم أعد أستطيع النوم".أحمد أهمل صحته حتى وصل وزنه إلى 49 كلغ (فيسبوك)الدكتور المتخصص في علم النفس الاجتماعي محسن بنزاكور، سلط الضوء في حديثة لـ"المشهد"، على أهمية دور الأهل والأصدقاء في التعامل مع الشخص الذي يُعاني من أفكار انتحارية، لافتا إلى أن "عدم اهتمام الأهل والمحيط بالحالة النفسية للمقبل على الانتحار، رغم وجود علامات واضحة على شخصيته، مثل الشعور باليأس المستمر، أو الانعزال عن المجتمع، أو ربما تكون تصرفاته هيستيرية، قد يؤدي بطبيعة الحال إلى شعوره بالإهمال ما يضخم أفكاره الانتحارية والسوداوية".وهذا ما أشار إليه المهدي كذلك، محملا الأسرة الدور الأكبر في التعامل مع الحالات المعرضة للانتحار، مشددا على ضرورة وجود دعم أسري كاف، مطالباً الأسرة والأهل والأصدقاء "بأخذ الأمر على محمل الجد حتى ولو كان هذا الشخص يفعل ذلك كنوع من جذب الاهتمام".أسباب النجاةلكن بنزاكور جادل في فكرة أن "بنية الشخصية تلعب دوراً كبيراً في مواجهة الصعوبات"، موضحا أن "تعرض هذا الشخص لأي أزمة أو مشكلة في حياته، خصوصا إذا كان مراهقا ويتعرض للتنمر أو الانتكاسة في الدراسة، قد تساعد في تأجيج مشاعر الكآبة في داخله، وهو ما قد يقود الشخص للتفكير بالانتحار كسبيل وحيد للنجاة".كان أحمد في سن 27 عندما حاول الانتحار، أي ضمن معدل الأعمار الذي أعلنت عنه منظمة الصحة العالمية في أحدث استطلاع، موضحة أن "الانتحار رابع سبب رئيس للوفاة في سن 15-29 عاما في جميع أنحاء العالم". بالنسبة لقصة أحمد، كان سبيله الوحيد للنجاة هو "إيقاف دماغه عن العمل" على حد تعبيره، فلم يجد طريقة أخرى للوصول إلى هذا الهدف إلا عن طريق الانتحار، يقول: "رفضت الذهاب إلى طبيب نفسي، رغم أنني درست في كلية الآداب قسم علم النفس، لكنني أردت أن أخرج من هذه الحالة بنفسي". إلا أنه فشل في النهاية في "إيقاف دماغه"، وفي يوم 14 أغسطس 2015 أخذ القرار، واشترى علبة حبوب منومة وابتلعها كاملة.فيسبوك "المُنقذ"وبعد أن ابتلع أحمد الحبوب المنومة كاملة، كتب منشوراً على فيسبوك يخبر أصدقاءه فيه أنه قرر الانتحار، لأنه لن يستطيع أن يكمل حياته بهذا الشكل، وبرر رسالته بأنه "لم أرد أن يمنعني أو ينجدني أحد، أردت أن أفصل دماغي من التفكير فحسب. كتبت الرسالة بعد أن انتهى الأمر، لأنني أردت أن يمنعوا جثتي من التعفن".يحكي أحمد تفاصيل ذلك اليوم قائلا: "كنت أعرف أن جميع أصدقائي مسافرين ولن يحضر أحد منهم في الحال، لكن لحسن الحظ كان أحدهم لم يسافر بعد، فحضر إليّ، وأخبرني أنني من فتح باب الشقة له ثم سقطت فاقدا الوعي، رغم أنني لا أذكر ذلك، فأخذني إلى المستشفى". يصمت قليلا ويتنهد ثم يتابع: "ورغم أن كل من حولي نصحوني بالذهاب إلى طبيب نفسي، إلا أنني رفضت".رفض أحمد الذهاب إلى طبيب نفسي قبل محاولته الانتحار وبعد المحاولة، ورغم أنه نجا إلا أنه ظل 3 سنوات يقاوم الانتكاسات المتكررة، لذا يشدد الدكتور المهدي، على ضرورة أن "يُوضع المريض في المصحة النفسية تحت متابعة شخصية لصيقة طوال الوقت، ولا يترك وحده حتى أثناء النوم". وأضاف أن "خطة العلاج سواء في المستشفى أو خارجها يجب أن تتضمن تخفيف الألم النفسي وتقديم الدعم والمساندة، وإعطاء بديل للانتحار، والبحث في مصادر التدعيم الذاتية للشخص مثل إنجازاته الحياتية السابقة وبصيرته ومشاعره ثم مصادر التدعيم الاجتماعية مثل الأسرة أو الأصدقاء".علامات الخطر و"فترة الحضانة"لا بد هنا من الوقوف عند العلامات، إذ إنه في 70% من حالات الانتحار كانت توجد علامات إنذار مسبقة، ولكن لم ينتبه إليها أو يدرك خطورتها أحد، فهل يُمكن أن نمنع شخصا عزم على الانتحار؟ يجيب الدكتور المهدي، بأن "هناك فترة حضانة لفكرة الانتحار قد تبلغ 3 شهور أو أكثر "، موضحا أن هناك عدد من علامات الخطر مرتبة حسب أهميتها، منها "وجود محاولات انتحارية سابقة، وتعاطى الكحوليات، حيث تزيد نسبة الانتحار بينهم 50 مرة عن عموم الناس، فضلا عن طول مدة نوبة الاكتئاب أكثر من المعتاد، وفقد شخص غالٍ، وعدم وجود عمل أو الإحالة للمعاش".وعودة إلى حالة أحمد، فبعد خروجه من المستشفى، يوضح لـ"المشهد" أن الفترة التالية كانت أكثر صعوبة: "بدأت أُصلّي، واتجهت إلى أقصى اليمين، ثم إلى أقصى اليسار ثم عدت إلى أقصى اليمين مرةً أخرى، كنت مشتّتاً وبقيّت على هذا الأمر عاما كاملا، وفي كل انتكاسة، كنت أعود إلى نقطة الصفر، إلى أن قررت أن أوقف هذا الأمر، وذهبت إلى النادي الرياضي وأفرغت كل طاقتي هناك، وبدأت أبحث عن عمل جديد".قرر أحمد بعد حادثة محاولة الانتحار أن يلجأ إلى النادي الرياضي حيث اهتم بصحته وأفرغ طاقاته السلبية (فيسبوك)في 2017، أي بعد عامين، بدأت حياة أحمد تستقر نسبيا، مع دخوله في دوائر أصدقاء وأهل متعددة، حتى لا تقتصر حياته على شخص محدد، وهو ما استغرق منه عاما آخر، حتى يتخلص من الانتكاسات التي كانت تنتابه. ويقول: "بعد ذلك، في كل مرة أفكر لماذا فعلت هذا، لا أجد مبرراً، ولم أكن بحاجة إلى فعله ولا شيء يستحق ذلك".من جهته، ربط الدكتور بنزاكور، علامات الإنذار المسبقة بالأسباب الجذرية التي قد تتشكل مع مرور الوقت بسبب "اتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء، والتكنولوجيا ووسائل التواصل الافتراضي التي لم تعد افتراضية، كذلك التشتت الأسري أو الطلاق أو الاضطرابات داخل الأسرة".تأخر أحمد في عمله بسبب محاولة الانتحار، ويقول: "قبل محاولة الانتحار كنت متميزاً في عملي، لكن بسبب استقالتي تأخرت كثيراً، خصوصا أن المجال الذي أعمل به (ديجيتال ماركيتنغ) يحتاج إلى تحديثات واطلاع دائم". لكن رغم ذلك، ورغم أنه بدأ مرة أخرى من الصفر بعد عودته إلى العمل، إلا أنه حقق تقدما كبيرا في عمله بفضل رغبته في التعلم وحضور الصفوف وإصراره على تجاوز المرحلة السابقة.أرقام ومعدلاتووفقا لمنظمة الصحة العالمية، تتزايد نسب الانتحار بشكل عام، ولا تحدث في البلدان المرتفعة الدخل فحسب، بل هي ظاهرة عالمية في جميع مناطق العالم، إذ سُجلت أكثر من 77% من حالات الانتحار العالمية في البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل في عام 2019.وعربيا، أصدرت "الصحة العالمية" تقريرا حول الوفيات الناجمة عن الانتحار في الدول العربية 2020 لكل 100 ألف، وجاءت المغرب على رأس القائمة بنسبة 7.29%، تلتها البحرين (7.20%)، فاليمن (7.06%)، فيما حلّ الأردن في المرتبة الأخيرة بنسبة (1.98%).ولدى سؤال الدكتور محسن بنزاكور، عن أسباب احتلال المغرب المرتبة الأولى في قائمة الوفيات الناجمة عن الانتحار عربيا، يقول لمنصة "المشهد" إن "هناك عوامل قد تساهم في زيادة نسبة الانتحار وهي سهولة الوصول إلى الوسائل القاتلة في المجتمع المغربي، مثل بعض السموم التي تستخدم في التخلص من الفئران مثلا أو المبيدات الحشرية، فضلا عن المخدرات والحبوب المهلوسة التي تباع بثمن بخس".وبحسب إحصاءات "الصحة العالمية" فإن ما يقرب من خُمس (20%) حالات الانتحار، هي نتيجة ابتلاع مبيدات حشرية، لا سيما في البيئات الزراعية والريفية، بالإضافة إلى الشنق، والأسلحة النارية.يعترف أحمد لـ"المشهد" بأن "بعض الشباب قد يأخذ قرار الانتحار لأنه لا يجد ما يفعله، كما أن فرص العمل قليلة وصعبة". ويضيف "لا يستطيع أن يلوم أحداً إذا فكر في ذلك، لكنه يوجه رسالة موجزة لمن يفكر في التخلص من حياته، بأن ما يريد فعله "ليس إلا هروباً من الوضع الحالي، لكنه ليس حلا، وليس أفضل ما يمكن فعله". وشدد على أن تركيزه في عمله هو ما ساعده على التجاوز، لذا ينصح بالتركيز على العمل، والانشغال بالموهبة، وبالرياضة، والدراسة. (المشهد)