تخلّى جزءٌ كبير من التونسيّين عن سياسة تحديد النّسل التي يعتمدها بلدهم منذ ستينات القرن الماضي، واختاروا لأنفسهم طواعيّة سياسة جديدة يخشى المراقبون أن تؤثّر مستقبلاً على التركيبة الديمغرافيّة للسّكان.وفي تونس صار إنجاب طفلٍ واحدٍ أو اثنين على الأكثر، شائعاً لدى كثيرٍ من العائلات التي خيّرت الاكتفاء بهذا العدد من الأطفال في ظلّ أزمة اقتصاديّة خانقة صاحبَها غلاءٌ قياسيّ للمعيشة.وتقول أسمهان وهي موظّفةٌ تزوّجت في العشرينات من عمرها إنّها أنجبت طفلةً واحدة، مضيفةً في تصريحٍ لمنصّة "المشهد" أنّها اتّخذت قرار إنجاب طفلٍ واحدٍ مع زوجها قبل الزّواج،" اتفقّنا بعد نقاشٍ مستفيض على أن ننجب طفلاً واحداً، لا نريد أكثر "، وتتابع "الحياة مكلفة ونريد أن نضمن لطفلتنا حياةً جيّدة، فليس مهمّاً أن ننجب عدداً أكبر من الأطفال، الأهمّ هو أن نوفّر لهم كلّ ما يحتاجون وأن يتلقّوا تعليماً جيّداً وهذه أمورٌ مكلفة تتجاوز طاقتينا كموظّفَين لا يملكان إلا راتبهما المتواضع".ولا تختلف وجهة نظر عثمان الرّجل الخمسينيّ عن وجهة نظر أسمهان فقد اتّفق مع زوجته منذ أكثر من عشرين سنة عند عقد قرانهما على الاكتفاء بإنجاب طفلٍ واحد، يقول لمنّصة "المشهد"، "كان القرار صادماً حينها للعائلة ولكنّنا تمسّكنا بموقفنا رغم كلّ الضغط الذي مورس علينا".ويؤكّد أنّه اليوم لا يشعر بالنّدم على اتّخاذ هذا القرار مبّرراً ذلك بقوله "كلّما أستمع لأحدهم يشتكي من كثرة طلبات أبنائه وعجزه عن تلبيتها أشعر بأنّني كنت على صواب".وتتبنّى تونس منذ أكثر من 60 عاما سياسة "تحديد النسل"، التي تشجّع على الاكتفاء بثلاثة أطفالٍ كحدّ أقصى، تصاحبها تسهيلات للنساء للوصول لوسائل منع الحمل بشكلٍ يكاد يكون مجانيّاً كما تجيز الإجهاض.وساهمت هذه السياسة طيلة عقودٍ طويلة في المحافظة على نسق نموّ عدد السكان في البلاد الذي لم يتجاوز وفق آخر البيانات الرسميّة 11.819 مليون نسمة، موزعة بنسبة 49.60% من الذكور، و50.40% من الإناث، بينما بلغ متوسط معدل النمو السنوي للسكان 1.12% في الفترة بين عامي 2015 و2020. تراجع عدد الولاداتووفق بيانات معهد الإحصاء الحكومي، عرفت "نسبة الخصوبة" انخفاضا ملحوظا خلال السنوات الأخيرة، وصولاً إلى 1.8 طفل في سنة 2021، مقارنة بـ2.4 طفل في عام 2013، و نسبة الخصوبة هي عدد الولادات الجديدة لكلّ ألف امرأة في سنّ الإنجاب في الفئة العمريّة من 15 إلى 49 سنة.وانعكس تبنّي "سياسات طوعية" جديدة للإنجاب على عدد الولادات في تونس الذي شهد تراجعا خلال الأعوام الأخيرة، وتؤكد أحدث البيانات الرسمية أنّ عدد الولادات في تونس تراجع خلال السنوات الفاصلة بين 2016 و2020 بنسبة 20.6 ٪.وانخفض عدد الولادات، حسب النشـرة الإحصائيّ السـنويّة لتونس، من 219 ألف و400 ولادة سنة 2016 الى 174 ألف و100 ولادة سنة 2020.ووفق احصائيات كشفها المعهد الوطني للإحصاء (حكومي) فقد رافق هذا التراجع تقلّص كبير في عدد عقود الزواج خلال السنوات الخمس الأخيرة (2016 / 2020) بنسبة بلغت 33 ٪ ليصل عدد عقود الزواج إلى 65630 ألف و630 عقد سنة 2020 بعد ما كان في حدود 198 ألف و125 عقد في سنة 2016.وأشارت النشرة الاحصائيّة السنوية لتونس (2016/ 2020) أن سنة 2020 شهد أعلى نسبة انخفاض في عدد الزيجات بلغت 21 ٪ ليصل إلى 65 ألف و630 عقدا بعدما كان في حدود 83 ألف و105 عقود في سنة 2019."التوجّه نحو التهرّم"ومن شأن هذا التراجع أن يؤثّر بشكل كبير على التركيبة السكانيّة في تونس، ويخشى الخبراء في البحوث الديموغرافيّة أن تتّجه نحو التهرّم خلال السنوات القادمة، ويقول عاطف بن عمر الأستاذ المتخصّص في الجغرافيا إنّ التقديرات تشير إلى أنّ المجتمع التونسيّ سيعرف تهرّماً سكانيّاً في الفترة الفاصلة بين 2035 و2040 موضّحاً في تصريح لمنصّة "المشهد" أن نسبة الكهول والشّيوخ ستعرف زيادةً كبيرةً خلال الأعوام القادمة مقارنة بنسبة الشباب، ويعتبر "أنّ اعتماد سياسات التحكم في الانجاب طيلة العقود الماضية إضافة إلى غلاء المعيشة أثّرا على هذه المؤشرات بشكلٍ كبير".وفي تصريحات سابقة كشفت وزيرة المرأة والأسرة التونسية آمال بالحاج موسي عن بداية تهرّم سكاني في تونس مؤكّدة أن نسبة كبار السنّ في تونس مثّلت 13 بالمئة من المجموع العام للسكّان سنة 2018، ومن المنتظر أن تصل قرابة 20 ٪ سنة 2036.تأثير الأزمة الاقتصاديّةتقول المختصّة في علم الاجتماع صابرين الجلاصي إنّ خيار إنجاب عددٍ محدودٍ من الأطفال له دوافع كثيرة، مؤكّدة أنّ العامل الاقتصاديّ يأتي في صدارة العوامل المؤثّرة في اتّخاذ هذا القرار، وتوضّح الباحثة الجامعية لمنصّة "المشهد" أن التوجّه نحو تبنّي هذا الخيار الطوعيّ هو نتيجة للتّطوّر التاريخيّ للسياسة الرسمية لتحديد النسل التي تعتمدها تونس منذ بداية الاستقلال ف"عادة السياسات التي تفرض بمنطق القانون تتجذّر مع مرور الزمن وتتحوّل إلى ثقافة مجتمع".وتزيد أن تطوّر الحياة وغلاء المعيشة والتوق نحو الرفاهيّة وجودة الحياة هي عوامل أخرى شجّعت على تبنّي مثل هذه الخيارات، ولا تُغفل المتحدثة عوامل أخرى مثل العزوف عن الزّواج أو الزّواج في سنّ متأخّرة والخوف من الفشل في الزواج والطلاق الذي تحوّل إلى نوع من "الفوبيا" لدى كثير من الشباب وهو ما يجعل من إنجاب أقلّ عدد من الأطفال الخيار الأمثل لكثير منهم.بدوره يربط رئيس منظمة إرشاد المستهلك (غير حكوميّة) لطفي الرياحي في تصريح لمنصّة "المشهد" التحوّلات الجديدة في سياسة الإنجاب عند التونسيين بالأزمة الاقتصاديّة التي تعيشها تونس موضحاً أن غلاء المعيشة أثّر على القرارات المتعلّقة بالزواج والانجاب.ويؤّكد أنّ تكاليف الزواج باهظةٌ وكذلك تكاليف إنجاب طفل وتربيته."العلاج مكلف والطعام مكلف والتعليم مكلف"، يقول الرياحي الذي يلفت إلى أنّ التونسي الذي أجبر على التقشّف في كلّ مصاريف حياته صار يفكّر مليّا قبل اتخاذ قرار إنجاب الأطفال لذلك فالكثير منهم صار يؤمن بأنّ "طفلا واحدا يكفي".(المشهد)