"لن أنجب أطفالا ليعانوا"، "الكوكب يحتضر".. عبارات كثيرة مماثلة تضج بها وسائل التواصل الاجتماعي، ينادي بها أبناء جيل يعاصر حالة عدم استقرار عالمية تصاعدت خلال الفترة الأخيرة مع انتشار الحروب والأوبئة والكوارث، ولعل ذلك يفسر انخفاض معدل الخصوبة حول العالم بنسبة 2% خلال الأعوام العشرة الأخيرة، لكن من هؤلاء؟ هل لديهم دوافع أخرى لمناهضتهم الإنجاب؟ وهل يمكن أن يكون ذلك نتيجة مشاكل نفسية تضاعفت لدى جيل الألفية؟بين الأنانية، وفق توصيف مختصين في علم النفس، وبين القلق من المسؤولية تجاه الأطفال، تبرز حركة Antinatalism "اللّاإنجابيّة"، باعتبارها واحدة من المفاهيم الحديثة التي تشكلت ملامحها أواخر القرن 20، ويزداد دعاتها مع مرور الوقت، فصارت لها أنديتها وفعالياتها كما تنتشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي مجموعات تبشّر بهذه الفلسفة وتدعو لها، في تحدٍّ للغريزة الإنسانية والأعراف السائدة بشأن الإنجاب.منصة "المشهد" وقفت على الموضوع واستطلعت آراء عدة حول القضية، تناولت الفكرة ذاتها، بين مؤيديها والرافضين لها، كما عرجت على آراء علم النفس، وتفسيراته لهذه الفلسفة من زوايا مختلفة، إضافة إلى الرأي الشرعي حولها.مراحل تطور فلسفة اللاإنجابيةتطورت فكرة اللّاإنجابية تدريجيا عبر التاريخ، حتى برزت أسماء مهمة نادت بها، من بينها فلاسفة الحركة العدمية Nihilism أو اللاوجودية مثل المفكر الألماني آرثر شوبنهاور، والفيلسوف الروماني إيميل سيوران، وقبلهما، الشاعر والفيلسوف العربي أبو العلاء المعري، بما حملته أبيات عدة منسوبة إليه، منها ما ورد في لزومياته الشهيرة: "وألقاك فيها والداك فلا تضع بها ولدا يلقى الشدائد والنكرا"، و"هذا جناه أبي علي وما جنيت على أحد".ويعد من أشهر من نادى بها في العصر الحديث من الوجوه الفنية الفنانان الراحلان، عبد السلام النابلسي وسناء جميل، بدعوى أن "الإنجاب أنانية". بينما في هوليوود، كشفت النجمة الراحلة كاثرين هيبورن، صاحبة أكبر عدد من جوائز الأوسكار، أن الأمومة لم تكن أبداً بين طموحها، وهو ما أيدته أيضاً النجمة رينيه زيلويغر، إضافة إلى أوبرا وينفري والسياسية الأميركية المخضرمة كونداليزا رايس، وغيرهن.لكن من يُنسب إليه حقا انتشار فلسفة اللّاإنجابيّة وتقديمها للعالم، الفيلسوف الجنوب إفريقي ديفيد بيناتار، عبر كتابه "Better Never to Have Been" والذي يقاربه في ترجمة عنوانه إلى العربية "من الأفضل ألا نكون"، حيث تناول فيه جوانب عدة تستند على مفاهيم أخلاقية بُنيت عليه رؤيته اللّاإنجابيّة."خطوة نحو الخلاص"وفي هذا الإطار، يرى ياسين عاشور الكاتب ومؤسس صفحات Antinatalism - ضدّ التّناسل على وسائل التواصل الاجتماعي فيسبوك وتويتر وإنستغرام، ويتابعها أكثر من 110 آلاف شخص، أن اللّا إنجابيّة "فلسفة جذرية تحل الكثير من المعضلات التي يتخبّط فيها البشر"، مشيراً إلى أنها "الإجابة القصوى والحل النهائي، إذ أنها تقترح على البشر اتخاذ خطوة حاسمة نحو الخلاص". ويشرح عاشور في حديثه لـ"المشهد" وجهة نظره قائلا إن اللّاإنجابيّة "ليست مُسَكِّناً للألم، ولا هي بالمخدر الذي يصرف الإنسان عن جوهرية ألمه، بل هي ترياقٌ قويّ يقتلع الألم من جذوره ويفنيه"، واصفا ذلك بأنه "ما يميّز هذه الفلسفة عن بقيّة الفلسفات والإيديولوجيات". وبالنسبة لعاشور الذي يتحدث باسم الحركة، فإن "اللّا إنجابيّة" تدعو إلى: تجنّب خلق المزيد من الحياة من خلال الامتناع عن الإنجاب بشكل طوعيّ.ذلك ما يمكن أن يؤدّي نهاية إلى انقراض النوع الإنساني، لكنه أمر محال لاستحالة اتّفاق الناس جميعهم على هذا القرار.نحن لا نقتات على وهم اقتناع البشرية كلها بهذه الفلسفة، لأنه من العسير إقناع الأحياء بمعاداة الحياةدور وسائل التواصل الاجتماعيوعن محاولات إيصال محتوى صفحات Antinatalism - ضدّ التّناسل إلى أكبر عدد ممكن من الناس، يقول عاشور: "نسعى إلى المساهمة في وصول هذه الفكرة إلى أكبر قدر ممكن من الأفراد النّاطقين باللغة العربية، ويبدو أننا نجحنا في جعلها مألوفة بشكل ما"، مرجعا انتشار اللّاإنجابيّة بشكل ملحوظ يعود إلى "سهولة انتشار المعلومة في عصر وسائل التواصل الاجتماعي".ويوضح قائلا: "النّاس منذ أول عهدهم يلتمسون مأساوية الوضع الإنساني لكنهم لا يحتجون ولا يردون الفعل بسبب الهيمنة المسلطة عليهم، أما الآن فقد صارت الأفكار سهلة الانتشار، وتعرف الأفراد على نظرائهم وأشباههم، لقد فكّتهم وسائل التواصل الاجتماعي من عزلتهم، وانتزعتهم من غربتهم، فاعتنق الكثير من النّاس الموقف اللّا إنجابي قبل أن يسمعوا عن هذه الفلسفة".ويلفت عاشور إلى أن أتباع الفكرة "شكلوا تجمّعات افتراضيّة (مجموعات وصفحات)، ويعبرون بكل حرية عن آرائهم، وذلك ما يجعلنا نشعر بالنجاح ولو بشكل نسبي ومحدود، لقد نجحنا في أن نقول لهم: لستم وحدكم". أسباب "مشروعة" أم أمراض نفسية؟وبينما يعتمد مناهضو الإنجاب على أسباب مدعومة بحقائق ودراسات تسند فكرتهم، مثل العوامل الطبيعية التي تؤثر سلبا على كوكب الأرض وتنقص من متوسط عمره كالاحتباس الحراري، وعوامل أخرى بشرية، إلا أن ذلك يتعارض مع ما يقوله الطب النفسي والدين في هذا الشأن."المشهد" تحدثت مع الاستشارية في طب النفس ريما بجاني والمعالج النفسي بلال مرسلي حول هذا الملف، وتساءلت عمّا إذا كانت الأسباب التي يناظر بها اللاإنجابيون "مشروعة" أم أن هناك أسباب أخرى تدفعهم للشعور بهذا النحو. ووفقاً لبجاني، فإنه بالنسبة للبعض هناك "دوافع أخلاقية انطلاقا من رؤيتهم إلى واقع العالم اليوم، وما يشهده من حروب وأزمات، وارتفاع في معدلات الجريمة، بينما يحمل البعض الآخر في داخلهم مزاعم عن الخوف من الملامة المستقبلية التي قد يحملها أبناؤهم تجاههم، وهو ما قد يكون امتدادا ذهنيا للملامة التي حملوها تجاه ذويهم ومسؤوليتهم عن إنجابهم والإتيان بهم إلى الحياة".مشاكل نفسية واجتماعيةوتوضح الطبيبة النفسية، أن بعض متبني اللّاإنجابيّة يتحركون انطلاقا من "عدم رغبتهم في تحمل مسؤولية ولادة طفل وتربيته والتدخل في تكوينه، وتأمين احتياجاته الأساسية، ربما بدافع الخوف أحيانا من عدم قدرتهم على الوفاء بمتطلبات الطفل، أو بسبب عدم القدرة على الاهتمام بالأطفال، ومراعاة حاجاتهم النفسية والتربوية، أو ربما بسبب سوء تجاربهم تجاه ما تعرضوا إليه من تربية ذويهم".وترى بجاني أن فريقا آخر من اللاإنجابيين يتبنى وجهة النظر هذه انطلاقاً من: غياب إحساسه بمشاعر الأمومة أو الأبوة.عدم رغبته في خوض هذه التجربة العاطفية، وهو أمر لا يتولّد من العدم بل يُبنى على حالة نرجسية يعيشها الفرد، الأمر الذي يدفعه إلى عدم التفكير في الإنجاب.أما المعالج النفسي بلال مرسلي، فيشير بدوره إلى عدم تدخل علم النفس في نظرة الناس إلى الحياة، لكنه يستشهد بجوهر العلم وطرحه سؤال الحياة الأكبر، وأسباب الوجود والاستمرارية فيها، ليصل إلى نتيجة مفادها بأن "الإنجاب هو معنى وجودي لاستمرار الحياة"، الأمر الذي يجعل التوقف عنه سبباً في إحداث خلل لدورة الحياة بالنسبة إلى البشر. ويعيد مرسلي في حديثه لمنصة "المشهد" مطالبات اللاإنجابيين إلى الصدمات التي تعرضوا لها أثناء الطفولة، ما تسبب في تشويه أفكارهم تجاه الإنجاب". ويرى أن الموقف اللاإنجابي ما هو إلا "أسلوب دفاعي ينتهجه العقل الباطن لخداع الوعي ببعض الأفكار مستخدماً منهجية التبرير والتثقيف"، فيما يؤكد أن أصحاب هذه المواقف "منكسرون داخلياً"، وفق تعبيره.الهروب من المسؤوليةويؤكد مرسلي على أن "الأصوات المطالبة باللّاإنجابيّة تنطلق مدفوعة بالهروب من المسؤولية، أو الخوف اللاواعي، أو اضطرابات نفسية وربما عقد نقص، وتتشكل لاحقا في مواقف توسم بالأخلاقية، وتبرر بحماية الأطفال من الإيذاء، أو تجنيبهم أخطار العالم الذي يرونه بائسا وموحشا".ووفقاً لبحث نشر في مجلة علم النفس الفلسفي في يوليو الماضي، ترتبط سمات شخصية الثالوث المظلم وهي (النرجسية، والميكافيلية نسبة إلى الفيلسوف الإيطالي نيكولو ميكيافيلي، والسايكوباثي أو الاعتلال النفسي) ارتباطا وثيقا بمناهضة الإنجاب، أو الاعتقاد بأن الإنجاب البشري خطأ أخلاقي.وتوضح الدراسة أن سمات الثالوث المظلم عبارة عن مجموعة من الخصائص الشخصية المتشابكة التي تتميز بالميل إلى الإفراط في الاهتمام بالصورة الذاتية للفرد، والميل إلى الخداع والتلاعب والقسوة وعدم الشعور بالندم.اللّا إنجابيّة حرام شرعاأما من منظور الشريعة والدين، فتحدثت "المشهد" مع الشيخ الدكتور أحمد كريمة، أستاذ الفقه المقارن في جامعة الأزهر، والذي أكد أن فلسفة اللّاإنجابيّة "حرام شرعا".وأوضح أن "الله جعل من أسباب الإنجاب الذرية، وإعمار الأرض، وهو حق من حقوق الزوج وكذلك الزوجة"، منوهاً في الوقت نفسه إلى أن "هناك فرق ما بين رفض الإنجاب وتنظيم النسل، إذ أن تنظيم النسل حلال ولا بأس به، مثل ما فعل الصحابة رضي الله عنهم".وعلى الرغم من اعتراض الدين وعلم النفس على فلسفة اللاإنجابية Antinatalism، إلا أنه من الواضح أن هناك عدد من الشباب العربي يفضلون عدم الإنجاب، وهو ما يضع على عاتق المؤسسات المسؤولة أن تبحث في الأسباب وراء هذا التوجه.(المشهد)