عندما يُذكر اسم جورج خباز نعرف أننا أمام حالة فنية مدهشة، أمام موهبة متفرّدة حباها الله بسرّ فنونه، كتابةً وتمثيلا وغناءً، يكفي وقوفه على خشبة المسرح لكي تصلنا طاقة توحّده مع الشخصية، فنصدّق أننا نُحلق بعيدا عن الواقع في الخيال الذي قدمه لنا بقوة تجسيده، ويكفي أن نرى اسمه على شارة مسلسل أو فيلم، لكي نعرف أننا أمام عمل يمسّ أعماق قلوبنا، ذلك أنّ جورج خباز فنان من نوع خاص، فهو الفنان المثقف المنشغل بهموم مجتمعه وقضاياه، والذي لا يفتأ يبحث عن حلول يقدمها، عبر أعمال فنية تصطدم بالواقع، وتُحرّك جموده وتوقظه من سباته، وتشير إلى أصل المشكلة، لكي يتنبّه الجميع، أفرادا ومسؤولين.يُعدّ خباز أحد أعمدة المشهد المسرحي في لبنان والعالم العربي، حيث كانت أولى خطواته على الخشبة عندما كان طفلا في الرابعة من عمره، إلى أن بدأ نجمه يسطع في عام 1994، حتى بات يحمل تاريخه الفني أكثر من 21 عملا مسرحيا، و16 مسلسلا تلفزيونيا، و8 أفلام سينمائية، دفع خلالها حدود إبداعاته لخلق أعمال آسرة، تترك انطباعا دائما لدى جمهوره. خباز الذي يؤمن بأنّ الفن حرية تعكس التجربة الإنسانية وتوفر منصّة للوعي الذاتي، تحدث لـ "المشهد"، عن المسرح ومسلسليّ "النار بالنار" و"براندو الشرق"، والأوسكار و"أصحاب ولا أعز"، وعن رحلته المُلهمة في البحث عن الوجود والمعنى، وعن أعماله المقبلة. هذا ما قاله:"النار بالنار" قدّم الواقعإلى أي مدى ترى أنّ شخصية عزيز في مسلسل "النار بالنار" واقعية؟ وهل هناك وجه شبه بينها وبين جورج خباز؟ العمل يُقدّم رسالة حول أهمية تقبّل الآخر وتقبّل اختلافه عنا، ومن هنا جاءت أهمية تقديم هذه الشخصية، لأنّ هناك طبقة في الشارع اللبناني تفكر بالطريقة نفسها، ونحن نقلنا الواقع ليس إلّا. شخصية عزيز تشبهني نعم، لكن من الناحية الفنية فقط؛ فأنا موسيقي وعزيز موسيقي يحب القراءة ويعزف البيانو، لكنّ ظروف عزيز لا تشبه ظروفي، وبالطبع تفكيره لا يشبه تفكيري.رسائل كثيرة يحملها "النار بالنار" ويطرح مواضيع ربما لم تُطرح من قبل، لكن هل تعتقد أن الحب أو التقبل يكفي لحل المشكلة القائمة بشكل يومي بين اللبنانيين والسوريين؟ لم نُقدّم حلولًا في هذا العمل، وإنما سلّطنا الضوء على ما يحدث في الواقع، وقضية قبول الآخر كما هو، باختلاف ثقافته عنا وأفكاره وتوجهاته، مسألة حساسة نتمنى يوما أن نستطيع تخطّيها، وما فعله "النار بالنار" هو أنه وضع المشكلة أمام الجميع بشكل واضح، وسلط الضوء عليها، بحثًا عن حل لها. بعد غياب طويل عدتَ إلى الشاشة الصغيرة بمسلسلي "النار بالنار" و"براندو الشرق"، ما هي الشروط التي تضعها لاختيار أعمالك؟ ولماذا ابتعدت عن التلفزيون هذه المدة؟ أختار الأعمال التي تُقنعني وتتناسب مع رسالتي، و"براندو الشرق" مشروعي الشخصي الذي يُعرض على منصة "شاهد"، من بطولتي وتأليفي ومن إخراج أمين درة. لم أبتعد عن الشاشة، ولكن كنت منغمسًا بالمسرح، حتى أُرغمت على الابتعاد عنه قسرا، وعندما أتيحت لي الفرصة عدت بعملين تلفزيونين، إضافة إلى فيلم "أصحاب ولا أعز" الذي يُعرض على منصة "نتفلكس". ما هو الدور المنوط بالفنان المثقف عند اختيار عمل فني جديد، في التصدي للأزمات الاقتصادية والسياسية التي يعيشها مجتمعه؟ هناك دور كبير على الممثل في اختيار أعماله، لكنّ الجهد الأكبر يقع على الكاتب والمؤلف، لأنه صاحب الفكرة وهو من يخيط القصة والحبكة التي يريد أن يشاهدها الجمهور. "براندو الشرق" يتحدث عن رحلة الفرد في بحثه عن هويته وذاته واكتشاف نفسه.. كيف ترى هذه التجربة؟ وهل حقا أحلامنا مشروطة؟ بالطبع، فرحلة الوصول إلى الهدف هي المهمة، لأنه من خلالها يعيد الشخص اكتشاف ذاته وأحلامه المشروطة بالوقت والظروف، لكننا لا بد أن نسعى دائما إلى الوصول إلى هذه الأحلام، لأننا عندما نصل، ندرك أننا لا نريد ما كنا نسعى إليه ونكافح من أجله، بل نكتشف بعد أن نصل أن نظرتنا للحياة تغيرت بسبب رحلة البحث عن الوجود.هل سنرى جورج خباز يقوم ببطولة منفردة في مسلسل رمضاني؟ فكرة "النار بالنار" كانت موجودة منذ 4 سنوات، وكل فنان يلعب دور البطولة مع نفسه، شاهدنا بطولة جماعية رائعة، فعملنا أنا بشخصية عزيز، والفنانة الرائعة كاريس بشار بشخصية مريم، والفنان الرائع عابد فهد بشخصية عمران، وغيرنا من الفنانين.. كلنا أبطال في مواقعنا. لكن إذا سنحت لي الفرصة لخوض تجربة البطولة في مسلسل رمضاني، فلِمَ لا.جورج خبار.. رجل المسرحتُعرّف عن نفسك دائماً بأنك "رجل مسرح" فما سر عشق جورج للمسرح بعيدا عن عائلتك الفنية العريقة؟ وبماذا يتميز المسرح عن غيره من أنواع الفنون بالنسبة إلك؟ المسرح يُقدس اللحظة، وهو طاقات متبادلة مباشرة لا يمكن التقاطها بالسينما والتلفزيون بالشغف المعنوي أو النشوة المعنوية نفسها. ما أعنيه أنّ اللحظة التي تعيشينها مع الجمهور وتصلكِ ردود الفعل المباشرة منهم، هي لحظة عظيمة، لأنّ هذا التفاعل من الناس يشحن طاقتكِ لتكملي عملكِ بالتناغم معهم.. هذه هي عظمة المسرح. أيضا المسرح يوحّد الناس في الصالة، حيث نرى الجمهور يحضر من مختلف الشرائح والمعتقدات والأفكار، لتجمعهم ضحكة واحدة ودمعة واحدة، فيتأثرون بالمسرحية وببعضهم البعض، ويصبحون حالة واحدة.. وهذه أهمية المسرح في توحيد المشاعر، لأنّ النقاط المشتركة عند الناس هي ذاتها، بغضّ النظر عن اختلافاتهم وخلافاتهم. كما أنّ المسرح يطرح فكرة التحدي اليومي: كيف تُقنع نفسك والجمهور أنّ هذا الحدث يحدث معك للمرة الأولى والأخيرة. كذلك فإنّ متعة اكتشاف الجمهور، هي لذة المسرح، وهو فن راقٍ جدا، ويكفي أن ترى المشاهد يُقبل إليك بكل حواسه واضعا ثقته الكاملة بك. في تصريح سابق قلت إن مسرحياتك "تكسر حدود الزمن".. ماذا تقصد بذلك؟ المسرحيات ليست مرتبطة بزمان ومكان، على الرغم من أنها تحدث بديكور واحد ثابت، لكن في قلب هذا الديكور الذي يمكن أن يكون تقليديا جدا، نلعب بالأزمنة ونكسر من خلال السينوغرافيا والنص هذه الحالة الزمنية، ونلعب بالوقت، لأنه شئنا أم أبينا فإنّ الحاضر مرتبط بالتعلق بالماضي أو الخوف من المستقبل، لذا فإنّ المستقبل والماضي حاضران على المسرح مثل ما يحدث بحياتنا اليومية، بذكرياتنا وهواجسنا ومخاوفنا وقلقنا واشتياقنا.. لذا إذا أردت أن أكون مرآة ناصعة لنفسية المشاهد ولعقله، سأتخطى الزمان والمكان.جورج خباز يرى أن المسرح يضم طاقات متبادلة مباشرة لا يمكن التقاطها بالسينما والتلفزيون (فيسبوك)المسرح كان راعي النهضة الثقافية وتحديدا خلال القرنين الماضيين لكنه تراجع بشكل كبير، كيف تُفسر هذا؟ المسرح غاب في أماكن لكنه حاضر بقوة في أماكن أخرى في أوروبا، مثل منبع المسرح إنجلترا، لأنه بالنسبة لهم حاجة إنسانية وثقافية وتعبيرية وتواصلية وتفاعلية، لذا لا شيء يؤثّر على المسرح هناك، نعم من الممكن أن يخفت ضوؤه لكن لن يخبو، فهناك أجيال جديدة كثيرة تدرس المسرح إيمانا منهم بدوره الفاعل بتنقية الشعوب. المسرح باقٍ، وهو الحالة الجماعية الوحيدة الحقيقية بعد دور العبادة. هل ظهور منصات متل نتفليكس كما قضت على جزء من السينما.. قضت على المسرح؟ المنصات مهمة، ولكن الناس بحاجة إلى الخروج للسينما أو المسرح للتفاعل مباشرة مع العمل وصنّاعه، ومع بعضها البعض، وتكون بحضرة الصالة المعتمة التي تضمّ الستائر الحمراء والصندوق الأسود الساحر الذي ينقلهم من عالم إلى آخر.. لذا لا شيء يحل محله. عند عرض مسرحية "هلق وقتا" في 2007 قلت إنها كانت تُشير إلى المستوى المتدني الذي وصلت إليه القيم الفنية والأخلاقية في وضعنا الحالي. بعد مرور 16 عاما عليها، هل تغير هذا الوضع كما وصفته؟ هناك نماذج متدنيّة في الوضع العام الفني، وليس كله. لطالما كان هناك عظماء ودخلاء في كل جيل وزمن. لذلك أنا لا أؤمن بمقولة "زمن جميل" و"غير جميل" لأنّ لكل زمن جماله وبشاعته، وكل ما علينا أن نفعله هو أنّ نقطف الجمال ونلحقه."قادمون إلى الأوسكار"بالإضافة إلى "النار بالنار" و"براندو الشرق"، فيلم "أصحاب ولا أعز" عمل جماعي مشترك ضم فنانين من لبنان ومصر والأردن، فكيف ترى الأعمال المشتركة سواء سينما أو تلفزيون؟ وهل تُقدم إضافة للعمل الفني العربي؟ نعم، الأعمال المشتركة تُقدّم إضافة للعمل الفني، ولكن إذا كانت مبررة مثل "أصحاب ولا أعز"، هذا العمل مهم ومبرر، لأنه في القصة هؤلاء الأصدقاء كانوا يدرسون في جامعة واحدة في بيروت، وأيضا بالنسبة لـ"النار بالنار" كان عملًا مشتركا مبررا يحكي عن الخلاف السوري اللبناني بشكل أو بآخر، وهو مبرر. وتأتي أهمية العمل المشترك في أنه يرفع من هويات الفنانين، حيث إنّ كل فنان يستفيد من هوية وخبرة الفنان الآخر، والتعاون فيه قوة. كيف تعاملت مع ردود الفعل الجدلية بخصوص التابوهات التي طرحها "أصحاب ولا أعز"؟ لا أرد على أيّ تعليقات ولا يهمني ما يقال، فإن كان التعليق إيجابيا بالطبع سأفرح، وإن كان سلبيا بشكل بنّاء، سآخذه بعين الاعتبار، أما النقد لمجرد النقد فقط والخارج من "حراس الفضيلة" فلا أردّ عليه ولا يهمني.متى يفوز فيلم عربي بجائزة الأوسكار من وجهة نظرك؟ قريبًا جدا، وأنا فخور كلبناني أنه ربما البلد العربي الوحيد الذي استطاع أن يوصل فيلمين متتاليين إلى الأوسكار، وهما: "قضية 23" و"كفر ناحوم" الذي شاركت بتأليفه بكل فخر. سنصل إلى الأوسكار عاجلا أم آجلا، كما أنّ السينما العربية تتقدم أيضا، وهناك خلط للخبرات، فالسينما المصرية أصبحت في تقدم تقني كبير، بسبب الدراسات التي يجريها المخرجون في الخارج، وهذا ينعكس على أعمالهم. نحن نزحف بشكل بطيء وراقٍ نحو الأوسكار. معنى الوجود وعبثية الحياة وغيرها من الأفكار الفلسفية العميقة التي رأيناها في "كفرناحوم" وفي أعمال هوليوود، لا نراها في السينما العربية، لماذا فنّنا يفتقر إلى طرح مثل هذه الفلسفات؟ فنّنا يفتقر لهذه الفلسفات، لأنّ مجتمعنا يعتبرها تابوهات، كما أنّ البعض يعتبر أنّ هذا فعل ضد الدين، وأن تطرح أسئلة وجودية هو أمر ضدّ العادات والتقاليد، لكنني أرى أنّ كل إنسان من حقه البحث في الأسئلة الوجودية، حتى لو كان متديّنا فيحقّ له بإيمانه ومن خلال إيمانه، أن يبحث عن معنى وجوده، لكنّ الفن تطور كثيرًا، هناك مسلسلات تطال العامة بدأنا نشعر أنها دخلت أكثر في هذه المجالات. لا يزال يطاردك البحث عن معنى الوجود.. فما تعريفك للوجود؟ وهل يمكن أن يكون معنى الوجود غير موجود، وأن الحياة مشهد سيريالي عبثي؟ طبعا أنا ما زلت في رحلة البحث وليس لديّ أجوبة واضحة، فأنا أبحث عن معنى وجودي، ونعم من الممكن ألا يوجد معنى للوجود، وربما وجودنا هنا ليكون لدينا حرية البحث والتساؤل، لكن بصراحة وبعد فترة من البحث المتواصل تصلين إلى مرحلة التصالح مع الذات، وبغضّ النظر عمّا إذا وجدنا أجوبة لأسئلتنا أم لا، فهي الخطوة الأولى في تثبيت معنى الوجود، لا بد أن تحب نفسك وتتصالح مع وجودك ومع شروطك، لينعكس هذا الحب عليك وعلى الآخرين من حولك."على هذه الأرض ما يستحق الحياة"من ساهم بكتابة تراجيديا كفرناحوم.. كتب "جايي الأيام.. نرجع أحسن ما كنا وكل الأحلام ترجع تتحقق عنا".. إلى أي مدى هذا التناقض في الفن واقعي؟ وكيف يمكن للفنان أن يظهر أن "على هذه الأرض ما يستحق الحياة" على الرغم من هواجسه وقلقه ومعاناته الشخصية؟ نحن محكومون بالأمل والألم، لأنّ الألم لا بدّ منه، نحن خلقنا بالألم، أما ما يصنع الفرح ويضيف لذة للحياة، هو البحث عن الأمل الدائم إن كان ذلك بأشغالنا، أو بوجودنا، أو بعلاقاتنا، أو بأغانينا، أو بشعرنا، نعم "على هذه الأرض ما يستحق الحياة" لأننا لدينا الحق والحرية لنفرح ونجد أبوابا للفرح، على الرغم من كل الألم الوجودي والشرطي الذي نعيش فيه.. وذلك يمكن بالفن الذي يصنع التوازن في الحياة، لأنه يحرّض على الجمال والفرح والحرية، وما أحوجنا إلى ذلك، إلى فرح ما إلى ضحكة ما إلى سحر ما.هل هناك فلسفة مُعيّنة تقودك في الحياة؟ كانت هناك الكثير من الفلسفات في كل مرحلة في حياتي، لكن الآن فلسفتي بسيطة جدا وهي أن أعيش هذه اللحظة التي لا أملك غيرها، لأنّ الماضي قد مضى والمستقبل لا أحد يعلم ما يخبّئه لنا، لذا أنا لا أملك إلا هذه اللحظة التي نحن فيها الآن، أعيشها بشغف وحب وبعمق. ماذا تعني لك الحرية.. وهل لها حدود بنظرك؟ الحرية حدودها المساس بحدود الآخرين، فهي جناح يرفرف، وأهميتها هي الاستمرار في البحث والتساؤل عن الفرح والألم والاعتقاد والحب والموقف، كل هذه تعكس قيمة الإنسان، ومن دونها سنكون مثل المساجين بلا قضبان. هناك دراسة تقول إن الإنسان يتغير كل 3 سنوات، فما الذي تغيّر في جورج خباز خلال السنوات الـ3 الماضية؟ ما مررنا به في لبنان من ظروف، فمن بعد أزمة فيروس كورونا، جاء انفجار بيروت الكبير والأزمة الاقتصادية المتفاقمة والكبيرة، كلها غيّرت وأعادت تشكيل أولوياتي وجعلتني أكثر تمسكا باللحظة، وباتت الآن خططي تتعلق أكثر باللحظات اليومية. ما هي أعمالك المقبلة؟ ربما أعرض مسرحية في ديسمبر المقبل، لكني لم أتخذ قرارًا بعد، هناك فيلم سينمائي عالمي يتم التحضير له من إخراج أمير فخر الدين، مع الممثلة الألمانية الكبيرة آنا شيغولا واسمه "يونان"، بالإضافة إلى فيلم مع المخرج ميشيل كمون، بطولة الفنانة نادين لبكي، على أن نبدأ تصويره خلال الصيف، كما أحضّر لمسلسل أقوم بكتابته، وأتمنى أن يكون مشروعي الثاني بعد "براندو الشرق". (المشهد)