معلومة عابرة في درس التاريخ اقتادت محمد غسان نويرة إلى التخصص في حرفة قديمة مضى عليها 600 عام. حرفة صناعة الصبغة الأرجوانية الملكية، وهي حرفة اندثرت في غياهب التاريخ، وجد لها الشابّ التونسيّ مخرجًا وأعاد إحياءها بعد سنوات من التعلم، جعلت منه أحد أندر المتخصصين في إنتاجها حول العالم. صُدفة قادته إلى الصَدَفة انطلاقة محمد غسان، وهو شاب تونسيّ بعمر 43 عامًا ويعمل مديرًا في شركة خاصة، في مجال إنتاج الصبغة الأرجوانية يعود إلى الألفينات، عثر بالصُدفة على صَدفة بحر على الشاطئ كان يخرج منها لون أرجوانيّ مميز جذب أنظاره إليه. صُدفة الصَدفة استحضرت إلى ذاكرة الشاب معلومات كان قد تلقاها في درس تاريخ بالمدرسة في الماضي. تعلّم من خلالها عن أبرز حرف الفينيقيّين التي أورثوها للقرطاجيّين ولدول البحر الأبيض المتوسط، وكانت صناعة صبغة الأرجوان الملكيّ هي الأبرز. اهتمام غسان بالتاريخ لم يسمح له بنسيان ذلك الدرس، وفضوله لاكتشاف التاريخ القديم وكل ما يتعلق بالحضارة القرطاجية، مكّنه من القدرة على تحديد نوع الصدفة التي وجدها، وطبيعة المادة الملونة التي تخرج منها وحدد له قيمة الشيء الذي بين يديه. يقول غسان في سرد لقصته لمنصة "المشهد": "كانت تلك المعلومات مشوقة كثيرًا في ذلك الوقت، ورسخت في ذهني على مدى سنوات، إلى حدود سنة 2007، حين وجدت في طريقي صَدَفَة مكسورة ويخرج منها اللون الأرجوانين وهكذا انطلقت مسيرتي في إعادة إحياء أسرار استخراج هذا اللون". صبغة الملوك راجت صناعة صبغة الأرجوان الملكيّ في العصور القديمة على سواحل البحر الأبيض المتوسط وخصوصًا في مدينة صيدا اللبنانية، وكان ارتداء الأقمشة الأرجوانية مخصصًا للملوك، ولم يكن لغيرهم الاستحقاق في هذا التميز. وسُمح في ما بعد بتمديد صلاحيات ارتداء الملابس الأرجوانية لأعضاء مجلس الشيوخ والكهنة، ليصبح رمزًا للقوة أو الكرامة العالية. ومن ذلك اكتسب هذا اللون الطابع الملكيّ وندرته رفعت من قيمته على مر القرون. يقول غسان، "هي صبغة تدوم على مدى قرون ويتركز لونها بالتقادم، ما جعلها الصبغة المحبّذة لدى الملوك في العالم القديم". وتُعتبر صبغة الأرجوان الملكيّ أغلى صبغة في العالم، وذلك لأنها تتطلب موادّ أولية بكميات كبيرة، ولطبيعة عملية استخراجها المعقّدة. ويصل سعر الغرام الواحد من هذه الصبغة وخصوصًا الألوان المعقّدة إلى 3000 دولار بحسب محمد غسان. تكوين عصامي اعتمد غسان على البحث والتجربة لتكوين نفسه في المجال. ويُرجع غسان مسيرة تطور عمله إلى عمليات التكرار والتعلّم من دون كلل. لم يجد غسان معلّمًا أو حِرَفيًا سابقًا له في المجال، لكنه أنار طريق تخصّصه من خلال الثقة في النتيجة التي لم يحصل على نجاحها إلا بعد سنوات طويلة من المحاولة والاستكشاف. يقول غسان، " كان من الضروريّ أن أتعلّم لوحدي عبر التجربة على مدى سنوات حتى وصلت إلى هذا المستوى، وفي الوقت الحالي أُعتبر من الناس القلائل جدًا في العالم الذي يستخرجون هذا اللون الأرجواني". ويتحدث غسان بفخر عن إقبال المتاحف العالمية الكبيرة على التعامل معه، وعن كونه اليوم الوحيد، تقريبًا، الذي يستخرج الصبغة المركّزة التي يتفرد بصنعها. عملية معقّدة داخل ورشته الصغيرة التي اكتست جدرانها الداخلية بدورها اللون الأرجوانيّ وزينت أركانها بالأصداف البحرية، يستخرج محمد غسان مادة اللون الأرجوانيّ من أحد أنواع صدف البحر الذي يطلق عليه اسم "المرّيق أو الميراكس"، وتقع بالتحديد في غدة صغيرة يتم استئصالها بحذر. يصف غسان عمله بـ "العملية المعقّدة" حيث إنّ الحصول على اللون الأرجوانيّ يتطلب الصبر والعمل المتواصل لمدة تصل إلى 8 أشهر، إلى جانب الحاجة إلى كميات كبيرة من الأصداف. يقول الشاب، "تحتوي الغدة على كمية ضئيلة جدًا من سائل شفاف يكتسب لونه بعد عملية الأكسدة تحت الشمس أو مع الهواء، ويتم ذلك عبر التدرج من الأصفر إلى الأخضر ثم الأزرق ومن ثم الأرجواني". يقوم غسان بتجفيف هذه الغدد في الملح، ومن ثم يقع تخميرها وثم استعمالها في صبغ الأقمشة. وبدافع الحفاظ على دورة حياة هذا الكائن العجيب، يؤكد الشاب على احترامه لمواعيد الصّيد والحصول عليه. كما أنه يستعمل بقية أجزاء الحيوان البحري كافة من دون إتلافها، كتخمير الصدفة وتحويلها إلى "جير" يُستعمل في الدهان، أو زرعها في الحديقة لتخصيب التربة والنباتات، وطبخ الأجراء القابلة للأكل، وأيضًا صنع صلصة السمك أو "القروم" كما يُعرف قديمًا من البقايا الأخرى. (تونس - المشهد)