خيّمت تبعات الحرب السورية على مفاصل الحياة كافة، لتطال شظاياها لا الجسد فقط، بل الصحة النفسية أيضا التي كان لها نصيبا لا يستهان به من هذه الأزمة.ويلات الحرب وما تبعها من ترد في الوضع الاقتصادي، وارتفاع معدل البطالة، وصعوبة تأمين أبسط المتطلبات المعيشية، وما تلاها أيضاً من انتشار لجائحة كورونا وظروف الحجر المنزلي التي فرضتها، جميعها عوامل ساهمت في زيادة الضغط المعنوي على السوريين، الذين باتوا أكثر عرضة للإصابة بالأمراض النفسية والاكتئاب المؤدية في بعض حالاتها إلى الانتحار.بشار (27 عاما)، صحفي سوري يعمل بجهد لمستقبل يلبي طموحاته المهنية، إلا أن صحته خانته هذه المرة بعدما تعرض لأزمة قلبية كادت أن تنهي حياته بثوان قليلة، بحسب ما قال لمنصة "المشهد".وأوضح بشار أن "الأطباء أعلموه بأنه تعرض لحالة تعرف علميا بارتداد كهرباء القلب، وهي نتيجة تعرضه لضغوط نفسية حادة"، مبينا أنه "يعاني من القلق وكثرة التفكير".فقدان الشغف ردينة ر. أيضا، شابة سورية تحوّلت فجأة من مسماها المتعارف عليه في العائلة "طبيبة المستقبل" إلى مريضة لا يعرف لها لا داء ولا دواء، لتتحول من طالبة مجتهدة في كلية الطب، إلى جاهلة بعلّتها.تروي الشابة السورية قصّتها لمنصة "المشهد"، وكيف بدأت مشكلتها نتيجة تقاعسها لتتأزم تدريجيا حتى سلبها لأحلامها الجامعية، بعدما وصل بها الحال إلى التغيّب الدائم عن حضور صفوفها، وسط دهشة جميع أفراد العائلة وصدمة زملائها المقرّبين.تقول ردينة: "لم تفلح محاولات المحبين في معرفة أسباب انزوائي ولم تجد كل محاولات الحديث معي نفعا حينها".مرض ردينة المباغت جعلها تردد ألفاظا وجملا لم يعهدها الجميع، تعود بذاكرتها وتقول: "بدأت أتساءل لماذا أدرس؟ وماذا يعني أن أبني مستقبلا؟ وأن أحقق حلمي بأن أصبح طبيبة؟ ما الفائدة والغاية المرجوة؟ إلى أين سأصل وما المعجزات التي سأنجزها؟".عزلت ردينة نفسها، مبتعدة عن محيطها العائلي وعن صديقاتها وزميلاتها، كالأسيرة في غرفة صغيرة شاردة الذهن محبطة الحال، إلى أن استيقظت يوماً لترى نفسها تقف أمام مختص نفسي أحضرته عائلتها، زعم حينها أنه صديق مقرّب، وسط تأكيدات لها بأنّه قادر على انتشالها من أزمتها.لم تع ردينة أنها تمرّ بأزمة نفسية بشكل جدّي، لكن لقاءاتها المتكررة مع الأخصائي، شكّلت منعطفا مفصليا في عالمها، علمت بعد هذا التاريخ أنها بدأت رحلة علاج للتخلص من اضطرابات نفسية شديدة.ازدياد نسبة الانتحار أمام هذا الواقع، ارتفعت محاولات الانتحار بشكل لافت بين السوريين، لتصل إلى 45 حالة عام 2022، بحسب تصريحات المدير العام للهيئة العامة للطب الشرعي زاهر حجو، لصحيفة الوطن السورية، مشيراً إلى أنّ أكثر الحالات كانت لأشخاص تتراوح أعمارهم بين 40 و50 عاماً.سعيد (51 عاما) أب لثلاثة أبناء، كان يقطن في حرستا بريف دمشق التي صنّفت خلال الحرب السورية كأحد "المناطق الساخنة"، خسر زوجته أمام مرأى العين بقذيفة هاون، ومع اشتداد المعارك، اضطر للنزوح مع أولاده باتجاه العاصمة دمشق، تاركاً وراءه منزله ومتجره، مصدر رزقه الوحيد.بدأ الخوف والقلق يتسلل إلى داخل سعيد، فاضطر لتعاطي أدوية مضادة للاكتئاب، بتشخيص فردي من دون مرجعية طبية، بعد أن وصل به الحال حد اليأس، مشاهداته الحية للموت، والفقر، واليأس من الحصول على أي فرصة عمل متاحة، جعلته يفكر في الانتحار أكثر من مرة.الدواء ملاذ السوريين كنتيجة حتمية لكثرة الضغوط الاقتصادية والاجتماعية الصعبة التي تعصف بحياة السوريين، ازداد الطلب على المهدئات وأدوية الاكتئاب والقولون العصبي بشكل ملحوظ في سوق الدواء السوري، وهو ما أكده الصيدلي، محمد العاقل، في حديثه لمنصة "المشهد"، مشيرا إلى أنّ "مضادات الاكتئاب والمهدئات ومنظمات النوم، باتت الأكثر طلبا في سوق الدواء".مثّلت هذه الأدوية وسيلة للهرب من هواجس الحرب وتخفيف وطأة آثارها، التي ما تزال نتائجها جاثمة على صدور السوريين، وأصبح التعاطي مع طلب هذا النوع من الأدوية خارج إطار الحرج من الحاجة لاستخدامها، وبحسب العاقل، فإن "إخفاء الناس لاستخدام هذه الأدوية كان أكبر قبل اندلاع الحرب مقارنة مع واقع الحال اليوم"."بات السوريون على دراية كاملة بأنهم يعانون من أزمات نفسية تتفاوت بين المتوسطة والشديدة والحادة، أكاد أجزم وزملائي الصيادلة أنه لم يعد يخلو منزل سوري من أصناف المهدئات ومضادات الاكتئاب"، على حد قول العاقل.تنتشر الاضطرابات النفسية في العالم كلّه، لكنها تتزايد بشكل ملحوظ في الأماكن غير المستقرة، وحتى الآن لا توجد إحصائية رسمية دقيقة لعدد المرضى النفسيين في سوريا، إلا أن زيادة الإقبال على شراء المهدئات يعكس مدى انتشار الاضطرابات السلوكية في الآونة الأخيرة.فجوة بين الأطباء والمرضى وإذا كان السوريون رفضوا سابقا قبول فكرة العلاج النفسي، معتبرين إياه إهانة، أو اتهاما بالجنون، أو فقدانا للعقل، فهل تغير الحال اليوم بعد أن بلغت الأزمات النفسية حد الرغبة في إنهاء الحياة؟يشير استشاري الصحة النفسية، حسام الضرير، في حديث لمنصة "المشهد"، إلى أن "أغلب الحالات في سوريا تعاني من الاكتئاب، واضطرابات الضغط النفسي الشديد (الصدمة)، والشدّات الكبرى، ثم أنواع القلق والرهاب".وبحسب منظمة "إغاثة سوريا" البريطانية، فإن 75% من السوريين يعانون من سبعة أعراض على الأقل لاضطراب ما بعد الصدمة، تشمل الخوف والأرق ومشاكل في الذاكرة، الانطواء وفقدان الشغف.وعلى الرغم من ارتفاع نسبة إصابة السوريين بالاضطرابات النفسية، لا يزال اللجوء إلى الاختصاصيين متواضعاً، فارتفاع تكاليف العلاج، والخوف من نظرة المجتمع، إضافة إلى العجز في عدد الأطباء النفسيين، عوامل أثنت السوريين عن التوجّه إلى العيادات المختصة، حسب رأي الضرير، لذا آثروا عدم الإفصاح والإجهار بمأساتهم النفسية، والتوجه عوضا عن ذلك سراً وخلسة إلى الصيدليات لشراء الدواء.وبالعودة إلى بشار الذي يشدد على تمسكه بالحياة لمستقبل واعد، فهو يخشى الذهاب إلى عيادات الطب النفسي لأنه لا يريد تناول الأدوية والعقاقير المهدئة.وبحسب آخر تقرير لمنظمة الصحة العالمية، فإن واحدا من بين 30 سورياً يعاني من حالة صحية نفسية سيئة، كما أن واحدا من بين 10 أشخاص لديه أعراض نفسية تتراوح بين الخفيفة والمعتدلة نتيجة التعرض طويل الأمد للعنف.وبناء على ذلك قدمت المنظمة أكثر من 400 مرفق للرعاية الصحية في سوريا توفر خدمات الرعاية النفسية والدعم النفسي الاجتماعي.وبحسب التقرير نفسه، فقد كانت الرعاية النفسية قبل اندلاع الأزمة محدودة وقائمة على المؤسسات فقط، ولم تكن خدمات الصحة النفسية متاحة سوى في مدينتين فقط، واقتصر عدد الأطباء النفسيين على 70 مختصا، وعدد محدود من الاستشاريين لمجموع سكان بلغ آنذاك 22 مليون نسمة.كما تقدم المنظمة الدعم في أنحاء البلد لإدماج خدمات الصحة النفسية في صلب الرعاية الصحية الأولية والمراكز المجتمعية، وبات هناك أكثر من 520 مركز خدمات صحية في سوريا، وأقيم في العام 2018 أكثر من 430.000 تدخّل لتوفير الدعم الصحي النفسي والرعاية النفسية الاجتماعية.وعن العدد الحالي للأطباء النفسيين في سوريا، يؤكد مدير مشفى ابن سينا للأمراض العقلية، د. أيمن دعبول، أن عدد المختصين النفسيين تراجع نتيجة الهجرة والسفر ليبلغ 45 طبيبا فقط موزعين على جميع المحافظات، بينما تحتاج بلد كسوريا حسب عدد السكان إلى حوالي 10 آلاف طبيب بالحد الأدنى.يدرك السوريون ضمنا أنهم يعانون أزمات نفسية عدة يصعب عليهم تحديدها، ولكنّهم يفضلون المكابرة على مأساتهم في العلن وإخفائها في أدراج أدويتهم، جيل لم ترحمه الحياة فكان لا بد له من إيجاد سبيل للتعايش مع هزاتها ومنعطفاتها وآلامها. (المشهد)