أعاد مسلسل "سفّاح الجيزة" الذي أثار ضجّة كبيرة منذ الشروع في بثّه قبل أيّام إلى ذاكرة التونسيين، قصّة أشهر سفّاح عرفته بلادهم، والتي تحوّلت بدورها إلى فيلم سينمائي.ودفع المسلسل المصريّ الكثير من التونسيين إلى استحضار قصّة أشهر قاتل متسلسل في تاريخ بلدهم، يعرّفونه بـ"سفّاح نابل"، ملأت أخباره تونس في نهاية الثمانينيات، وأدخلت الرعب إلى قلوبهم، وما زالت تفاصيل حكايته تصدمهم جيلا بعد آخر.. فمن هو "سفّاح نابل"؟ وما هي قصّته؟"سفّاح نابل" واسمه الحقيقي الناصر الدامرجي، هو أشهر قاتل متسلسل في تونس، تورّط في 14 عملية قتل استهدفت أطفالًا تتراوح أعمارهم بين 7و18 عاما، اعترف بارتكابها وشخّص تفاصيلها، وحوكم من أجلها بالإعدام شنقًا. وُلد الدامرجي في العاصمة تونس عام 1944، وتوفي في نوفمبر 1990 شنقا بعد تنفيذ حكم الإعدام بحقّه. تقول الروايات التي نقلتها الصحافة التونسية في تلك الفترة عن حياة الدامرجي، إنّه كان ابن بائعة هوى تعمل بأحد المواخير، أنجبته بعد إقامة علاقة غير شرعيّة مع شابّ من محافظة زغوان شمال تونس، دخلت والدته السجن بعد ذلك، وهناك أنجبته قبل أن تغادره وتتزوّج من فلّاح قبل أن يمنحه اسمه. عاش الدامرجي طفولة قاسية ولم يتعرف إلى والده البيولوجي إلّا في سنّ الـ30، حين دخل السجن لأول مرّة. شخصيّة مضطربة تُجمع الشهادات المتناقلة عن الدامرجي في تلك الفترة، أنّه كان شخصا قصير القامة وضعيف البنية، وهو ما يثير التساؤلات في نظرهم حول قدرته على ارتكاب ذلك العدد من الجرائم، رغم ضعفه الجسديّ مقارنة ببعض ضحاياه أحيانا. لكنّ أغلب من تواصلوا معه يؤكدون أنّه كان شديد الذكاء وصاحب نكتة، يُحسن الحديث باللغة الفرنسية، رغم أنّ تعليمه لم يتجاوز المرحلة الابتدائية. في بداية الستينيات سافر إلى فرنسا بعد أنّ تقدم لخطبة ابنة خاله، التي كان متيّما بها رغم فارق العمر الكبير بينهما، لكنّ صدمته كانت كبيرة حين عاد بعد 4 سنوات ليكتشف أنّها تزوّجت في غيابه. شكّل الحادث منعرجًا في حياة الدامرجي، الذي لم يتقبّل أن يُخلف خاله وعده له بتزويجه من ابنته، وأجّج مشاعر الحقد لديه ليعود وينتقم منها بعد عشرين سنة بقتل ابنها. استطاع الدامرجي أن يجني الكثير من المال من عمله في تأجير المزارع، لكنّ ذلك لم يمنحه توازنا نفسيًا، إذ ظلّ يعاني تبعات طفولته المضطربة والقاسية. الجريمة الأولى في عام 1985 لمح الدامرجي طفلا استوقفه في الطريق لنقله على دراجته النارية، عرض القاتل على ضحيّته أن يرافقه لجني أشجار اللوز في مزرعته، مقابل بعض المال، وهناك قام بقتله بعد اغتصابه، يقول في اعترافاته إنّه لم يكن ينوي فعل ذلك، لكنّه عندما لمح الطفل شبه عارٍ فوق جذع الشجرة، لم يستطع تمالك نفسه فحاول إغراءه ببعض المال، غير أنه رفض وحاول الهرب، فما كان منه إلا أن لحق به وخنقه ثم قام بدفنه في ضيعته بعد الاعتداء عليه. شعر القاتل المتسلسل بالخوف بعد فعلته الأولى، وكان يخشى أن ينكشف أمره، ولم يعد لارتكاب جريمته الثانية إلا بعد عامين، حين قام باستدراج مراهق يبلغ من العمر نحو 18 عامًا بالطريقة نفسها، ورغم الفارق الكبير في القوة الجسديّة بينهما، استطاع القاتل المتسلسل أن يوقِع بضحيّته، وكان قد تعرف إليه وسط العاصمة تونس، واستدرجه إلى مسقط رأسه، وهناك قتله ودفنه بعد الاعتداء عليه. تواصلت جرائم السفّاح التي استهدفت في معظمها أطفالا، وكان القاتل يُتقن عملية إخفائها، إلى أن جاء الدور على ابن خطيبته السابقة، ليكون أيضا أحد ضحاياه، وبالطريقة نفسها قتله انتقاما من والدته التي تزوجت من غيره قبل عشرين عامًا. صدمة ورعب صدمت سلسلة الجرائم المرتكبة في تلك الفترة التونسيّين، وبثّت الذعر في نفوس الأولياء، وتحركت الشرطة بحثا عن القاتل المجهول، وتم توقيف العديد من الأشخاص المشتبه بهم كان الدامرجي أحدهم، لكنه نجح في الإفلات من قبضة الأمن لعدم كفاية الأدلة. تم توقيف السفاح في مناسبة ثانية، وهناك حاول الهروب وارتكب في طريقه المزيد من الجرائم قبل أن يتمّ إلقاء القبض عليه مرّة أخرى، ويعترف بتفاصيل 14 جريمة قتل. أحد الذين واكبوا عمليات إعادة تشخيص الجرائم التي ارتكبها الدامرجي، وفضّل عدم الكشف عن هويته، يؤكّد لمنصّة "المشهد"، أنّ جرائم القتل التي سُجّلت في تلك الفترة، كانت حديث الشارع التونسي وشغلت الرأي العام"، وبات الكشف عن هويّة الفاعل أولويّة للشرطة حينها، فقد أقامت الجرائم الدنيا ولم تقعدها". يكشف المتحدث عن بعض تفاصيل عمليات إعادة تجسيد وقائع الجرائم، مؤكدا أنّ الدامرجي لم يكن يُبدي ندمًا على ما ارتكبه، إذ كان يعيد تجسيد جرائمه بدم بارد، وأحيانا يتعمّد استفزاز الحاضرين، وقد يحدث أن يطلب من رجال الشرطة أن يُمدّوه ببعض السجائر، لكنه يؤكد أنّ شخصيته الاستفزازية تغيّرت فور انطلاق محاكمته، إذ "لم يعد يتكلم كثيرا، ظل ملازما الصمت طيلة جلسات المحاكمة التي امتدت على مدى أشهر طويلة". فيلم مثير قبل أعوام قرّر المخرج التونسيّ كريم بالرحومة، تحويل قصّة أشهر سفاح في تونس إلى عمل سينمائي، يقول إنّ التحضير له استغرق 5 أعوام، وثّق خلالها كل ما كُتب عن الدامرجي، والتقى بمن كانوا على اتصال ومعرفة به، قبل أن يُمضي قرابة العام ونصف العام في تصوير العمل الذي لعب فيه الممثل أحمد الأندلسي دور البطولة. وكمسلسل "سفّاح الجيزة"، أثار فيلم "سفاح نابل" الكثير من الجدل، ورفعت عائلة الدامرجي العديد من القضايا لإيقاف تصويره، لكنّ القضاء لم يحكم لفائدتها كما يؤكد ذلك منتج الفيلم مجدي الحسيني لمنصّة "المشهد"، كاشفا أنّ أغلب من كانت لهم علاقة مباشرة بأشهر قاتل متسلسل في تاريخ تونس، فضّلوا عدم الخوض في قصّته والكشف عن هوياتهم، "خوفا من الملاحقة القضائية ربّما، بعد أن توجّهت عائلته للقضاء لتتبّع كلّ من يتطرّق لقصّته". عُرض الفيلم في أكثر من مهرجان، وحصل على العديد من الجوائز، لكنّ ذلك لم يمنع انتقاده من طرف كثيرين، تساءلوا عن جدوى تحويل قضيّة معروفة وشخصيّة منحرفة إلى عمل فني، غير أنّ الممثل أحمد الأندلسي كشف في حوارات سابقة، أنّ العمل حاول الغوص في أعماق هذه الشخصية، مؤكدا أنّه " لم يستطع مشاهدة أجزاء من الفيلم بسبب جانبها المظلم"، فيما يقول الممثل معز بعتور، إنّ مثل هذه القضايا الصادمة تشد المتفرج وتثير فضوله، مضيفًا في تصريح لمنصّة "المشهد"، أنّ "الأهم في تحويل قضيّة سفاح ما إلى فيلم أو مسلسل، هو طريقة التناول الفني لها، وكيفية إخراجها وتقديمها للمشاهد حتّى لا تكون شبيهة بالأعمال التوثيقيّة". في عام 1990 نُفّذت عقوبة الإعدام شنقا ضدّ أشهر سفّاح في تاريخ تونس، ليكون آخر تونسي ينفّذ ضدّه حكم الإعدام، وليظلّ الجدل بعده قائمًا حول حكاياته وحول هذه العقوبة، وسط تعالي المطالبات الحقوقيّة بإلغائها. (المشهد)