بتناسق وبسرعة فائقة، يجزّئ لفافة قماش ذهبية اللون ذات ملمس ناعم، مستخدما قطعة خشب للقياس ومقصا حادًا. تراوغ أنامله طيات القماش برقة ويتناسق إيقاع حركاته وأدواته على طاولة المشغل الخشبية لينصعا نغمة متوازنة. تعدّ هذه الخطوات ضمن جدول روتين العم فتحي اليومي, بعد تسلم الطلبية وأخذ المقاييس ينطلق في تقطيع أجزاء القماش الذي اختار ألوانه بعناية ونسق اكسسوارات زينته بإتقان لصناعة "الجبة التونسية" على الطريقة الأصيلة التي خبِرها لأكثر من نصف قرن. فتحي الشعّار حرفي تونسي مختص في صناعة "الجبّة"، وهي عبارة عن لباس رجالي خارجي فضفاض مفصّل ومخيّط له فتحة مطرّزة مكان الرّقبة وفتحتين مكان الذّراعين، أو كما تكنّى مهنته في اللهجة التونسية بالـ"برانسي" وتشتقّ من كلمة (بَرنُوس)، وهو لباس تونسي تقليدي شتوي يوضع كمعطف يغطي الأكتاف ويسدل على كامل الجسم، يدير العم فتحي محلاّ لصنع الألبسة التقليدية بسوق الصوف."السكروذة والقمراية"في المدينة العتيقة بتونس، ويشغل منصب أمين حرفة الجبة في الجمهورية التونسية. ورث العم فتحي مهنته عن والده مختار الشعار الذي توارثها هو بدوره عن أجداده، والذي تقلّد منصبا هاما في القطاع داخل الدولة منذ 1945. يمارس العم فتحي هذه الحرفة منذ سن الـ12، أين وجد نفسه مضطرا لاستلام المشعل ومسؤولا عن مواصلة العمل في محل والده بعد وفاته، ليترك فتحي مقاعد الدراسة ويتحول إلى السوق العربي في سنّ مبكرة. بين "السكروذة والقمراية" وغيرها من التسميات والتوصيفات، يرى السيد فتحي في الجبة التونسية هوية وعنوانا، يصر على أنها بطاقة تعريف التونسي في المحافل الدولية، كما أنه يحمل اعتبارا كبيرا لهذا الزي التقليدي باعتباره أفخم ما يمكن الظهور به في الأفراح والحفلات والمناسبات خاصة الدينية ويلخص معنى الأناقة في ارتدائه في نظره. تجاوز سيط محل الشعار للألبسة التقليدية والجبة الوسط العاميّ وسوق المستهلك العادي داخل أسوار المدينة العتيقة، بل وصل إلى البلاط ودخل قاعات الحكام والأعيان. يروي العم فتحي بكل فخر تجربة محلّ الشعّار في تجهيز اللباس التقليدي والجبة لزعماء ورؤساء ووزراء تونس وسياسيّها طيلة عقود، انطلاقا من بورقيبة وصولا إلى محمد المرزوقي. يقول العم فتحي "عند اعتلاء زين العابدين بن علي السلطة في أواخر الثمانينات سأل عن هوية البرانسي الذي تعوّد تجهيز الجبة التونسية للزعيم السابق الحبيب بورقيبة، وعلى خطى والدي مع الزعيم، تمكنت دون انقطاع من مواصلة تجهيز لباس بن عليّ التقليدي طيلة فترة حكمه على مدى 23 عاما ".يستذكر العم فتحي أهم المناسبات التي ظهر فيها الرئيس السابق بن علي مرتديا بالكامل طقم الجبة من صنع يديه خلال تدشين جامع الفتح وهو أحد أكبر جوامع العاصمة. وفي حديثه عن مواصفات الجبة وأنواعها يستشهد بتجربته الطويلة في تجهيز جبة عبد الفتاح مورو، وهو محام وسياسي تونسي ورئيس مجلس النواب السابق، الذي يُعرف بارتداء الجبة في حياته اليومية ويتخذها زيه العادي، قائلا إنه يقوم بتجهيز الجبة لعبد الفتاح مورو منذ أن كان شابّا أعزب، مُثنيا عن ذوقه في اختيار ألوانها وتنسيق مجموعاتها.الخوف على مكانة الجبة واللباس التقليديأما بالنسبة للابن حسن الشعّار فقد نالت الجبة في قلبه ما نالته حبا ووفاء في قلب أبيه، فيصرّ حسن نجل العم فتحي على مواصلة مسار والده في صناعة اللباس التقليدي والمحافظة على حرفة الأجداد ويشارك أباه العمل داخل محله في السوق التقليدية الذي تميز باللون الأخضر الملكي والطابع العربي موحيا بأصالته وقدمه. يقول حسن "علاقتي بالجبة وطيدة وهي مرتبطة بطفولتي ونشأتي ومغروسة في داخلي، ولا يمكنني الابتعاد عنها، رغم أن تخصصي الدراسي كان بعيدا عن مجال صناعة الألبسة التقليدية إلا أنني قررت العودة إلى الجذور ومواصلة حرفة والدي وأجدادي، لقد أحسست بالمسؤولية تجاه مهنة العائلة وما كان مني إلا أن أستلم المشعل عن والدي وأن أضمن تسليمه إلى الأجيال المقبلة".مع تقدم الزمان وتغير الموضة يخشى العم فتحي على مكانة الجبة واللباس التقليدي لدى التونسيين، فلا يخفى عنه تراجع الإقبال على تصنيعها واستهلاكها خصوصا مع تضرر حركية الأسواق التقليدية في المدينة بسبب الركود والأزمات الاقتصادية في البلاد، بالإضافة إلى تفعله الحداثة بذوق الشباب الذي يبتعد شيئا فشيئا عن لباس الأجداد والأصول، إلا أنه لا يدّخر جهدا في محاولة إحياء القطاع والمحافظة عليه من الاندثار، كأن يسهر على تعليم ابنه كل ما يخص المجال وأن يورثه مهنة العائلة، كما يقوم بتلقين الحرفة للمهتمين بها من الشباب ومشاركة أسرار تجربته الكبيرة من أجل تحفيز الحرفيين الجدد على الإقبال عليها والتشبث بقيمتها الفنية والمعنوية. ويحلم العم فتحي بأن تستعيد سوق صناعة الجبة التونسية تألقها من جديد ويأمل في أن يحافظ التونسيون الحرفيون منهم والمستهلكون على هذا رمز هويتهم التاريخي وأن يحفظوا مكانته في قلوبهم. (المشهد - تونس)