منذ القرن الماضي تتحدث تقارير علمية على استحياء، بشأن ارتفاع درجات حرارة كوكب الأرض بشكل متطرف، بفعل التغيرات المناخية الناجمة عن الاحتباس الحراري، غير أنّ العالم لم يأبه لذلك، إلا حينما تسببت موجتا حر متطرفتان في عام 2003 بأوروبا الغربية، وفي عام 2010 بالاتحاد الروسي، في 80% من الوفيات المرتبطة بظواهر الطقس بالقارة العجوز بين عامَي 1970 و2019. وخلال السنوات التي تخللت هذه الفترة، تزايدت الدعوات من العلماء وخبراء الأرصاد الجوية بشأن أهمية إيجاد حلول مناسبة للسيطرة على احترار كوكب الأرض، والتي كان من بينها اتفاقية باريس للمناخ الموقّعة في ديسمبر 2015، لكنها على الرغم من ذلك كانت رهينة للمتغيرات السياسية بين الدول الصناعية الكبرى، الأمر الذي ألقى بظلاله على العالم الذي يشهد ارتفاعات كبيرة في درجات الحرارة لتصل إلى مستويات غير مسبوقة.ماذا يحدث؟بحسب المنظمة العالمية للأرصاد الجوية، من المرجح أن ترتفع درجات الحرارة العالمية في السنوات الـ5 المقبلة، بفعل انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، وظاهرة النينيو الطبيعية، لتصل إلى مستويات قياسية. وقالت المنظمة في تحديث مناخي جديد صدر مايو الماضي، إنّ من المحتمل وبنسبة 66% أن يتجاوز المتوسط السنوي لدرجات الحرارة العالمية بالقرب من سطح الأرض، مستويات ما قبل العصر الصناعي بمقدار 1.5%، وذلك في عام واحد على الأقل من الفترة 2023-2027، مضيفة أنه من المتوقع وبنسبة 98% أن تكون سنة واحدة على الأقل من السنوات الـ5 المقبلة أو الفترة كلها، الأكثر حرّا في التاريخ. ويؤكد هذا استشاري التغيّرات المناخية ورئيس وحدة التغيرات المناخية السابق في وزارة البيئة المصرية السيد صبري، خلال حديثه مع منصة "المشهد"، والذي يقول إنّ "هناك مليارات الأطنان من الانبعاثات الكربونية التي تؤثر على الطقس وأدت إلى تزايد الاحتباس الحراري، الأمر الذي أدى إلى حدوث خلل في طبيعة الطقس، حيث تجد ارتفاعات كبيرة في درجات الحرارة بمناطق مختلفة من العالم في الوقت نفسه، يقابلها تراجعات كبيرة في درجات الحرارة بمناطق أخرى".وخلال شهري يونيو الماضي ويوليو الجاري، شهدت دول عدة في العالم ارتفاعات تاريخية في درجات الحرارة، من بينها دول عربية، إذ يؤكد السيد صبري أنّ الطقس المتطرف في هذه البلدان، يرجع إلى التغيرات المناخية الناجمة عن انبعاثات الغازات الدفيئة، وتأثير ما يُعرف بظاهرة النينيو الطبيعية، والتي تكون مصحوبة بارتفاع كبير في درجات حرارة الأرض والمحيطات.والسبت الماضي سجلت تونس رقما قياسيا في درجات الحرارة، إذ بلغت 48.4 درجة بمدينة القيروان وسط البلاد، حسبما أعلنت السلطات المحلية، لتكون بذلك سابع أسخن منطقة في العالم. لكن قبل أيام سبقتها الجزائر بأعلى درجة حرارة في العالم عند 50 درجة مئوية بولاية أدار جنوبي غرب البلاد.ولم تكن الدول الأخرى في الكرة الأرضية بعيدة عن الارتفاعات غير المسبوقة في درجات الحرارة، إذ سجلت بريطانيا أعلى درجات حرارة في شهر يونيو الماضي، منذ بدأ تسجيل درجات الحرارة في عام 1884 ميلادية، بينما ارتفعت درجات الحرارة إلى مستويات متطرفة في الولايات المتحدة والمكسيك والهند، لتخلف مئات الوفيات والإصابات.ويعتبر الخبير البيئي ومؤسس مبادرة كربون للاستدامة في مدن الشرق الأوسط كريم الجندي، أنّ ظاهرة "النينيو" ما هي إلا سبب ثانوي في ارتفاع درجات الحرارة خلال الأيام القليلة الماضية، و"السبب الرئيس يكمن في الاحتباس الحراري الناجم عن الأنشطة البشرية وانبعاثات الغازات الدفيئة". ويضيف الجندي خلال حديثه مع منصة "المشهد"، أنّ متوسطات درجات الحرارة في العالم سجلت درجات غير مسبوقة منذ بداية يوليو الجاري، حيث كان يوم الاثنين من الأسبوع الماضي، هو الأعلى على الإطلاق، مشيرا إلى أنّ ارتفاع درجات الحرارة في عدد من الدول العربية في شمال إفريقيا، إلى درجات غير مسبوقة، يؤكد توقعات العلماء بشأن تسجيل منطقة الشرق الأوسط درجات حرارة أعلى من جنوب غرب إفريقيا خلال السنوات المقبلة. المزيد من الارتفاعاتاتفق الخبراء خلال حديثهم مع منصة "المشهد"، على المزيد من الارتفاعات في درجات الحرارة خلال الأيام القليلة المقبلة على مستوى مناطق متفرقة في العالم.ومطلع يوليو الجاري أعلنت المنظمة العالمية للأرصاد الجوية بداية أحوال ظاهرة "النينيو" المناخية في المناطق الاستوائية في المحيط الهادئ، للمرة الأولى منذ 7 أعوام، "لتمهّد الطريق لحدوث ارتفاع محتمل في درجات الحرارة العالمية وأنماط الطقس والمناخ المضطربة". وأكدت المنظمة أنّ هناك احتمالا بنسبة 90% لاستمرار ظاهرة "النينيو" خلال النصف الثاني من عام 2023. بدوره، قال الأمين العام للمنظمة البروفيسور بيتيري تالاس في بيان، إنّ ظهور ظاهرة "النينيو" سيزيد من احتمال تحطيم الأرقام القياسية لدرجات الحرارة، وإحداث المزيد من الحرارة الشديدة في أجزاء كثيرة من العالم وفي المحيطات أيضا. ووفق المنظمة العالمية للأرصاد الجوية، تحدث ظاهرة "النينيو" في المتوسط كل 2 إلى 7 سنوات، وتستمر النوبات عادة من 9 إلى 12 شهرا، وهي نمط مناخي يحدث بشكل طبيعي ويقترن بارتفاع درجات حرارة سطح المحيط في وسط وشرق المناطق الاستوائية في المحيط الهادئ، كما أنه يحدث في سياق تغيّر مناخي ناجم عن الأنشطة البشرية.ويقول كريم الجندي خلال حديثه، إنّ "ظاهرة النينيو في عام 2016، كانت أقل حدة من ظاهرة النينيو خلال عام 2023، وهذا يؤكد على أنّ الأنشطة البشرية التي أدت إلى تزايد الانبعاثات الكربونية وساهمت في احترار الأرض، هي من تلعب الدور الأكبر في التغيّرات المناخية والطقس المتطرف".ويعزون العلماء الاحتباس الحراري الذي لوحظ منذ منتصف القرن العشرين إلى حبس الغلاف الجوي الحرارة المشعّة من الطاقة الضوئية للشمس، من الأرض باتجاه الفضاء، نتيجة امتصاص نحو 90% منها، بواسطة الغازات الدفيئة، ما يؤدي إلى إبطاء فقدان الحرارة في الفضاء، بحسب ما يقول الموقع الإلكتروني لوكالة الفضاء الأميركية "ناسا". وهو ما يؤكده أيضا استشاري التغيرات المناخية والذي يلقي باللوم على "الثورة الصناعية والدول المتقدمة". ماذا نحتاج؟منذ اتفاقية باريس للمناخ الموقعة قبل أكثر من 8 أعوام، تحاول دول العالم تعزيز الإجراءات الرامية إلى الحدّ من الانبعاثات الكربونية، للحفاظ على الاحترار أقل بكثير من 2 درجة مئوية، ومتابعة الجهود للسيطرة على درجات الحرارة عند 1.5 درجة مئوية، لكنّ هذا لم يحدث بالشكل المطلوب بحسب رئيس وحدة التغيّرات المناخية السابق بوزارة البيئة المصرية. ويقول السيد صبري خلال حديثه: "ارتفاع الحرارة هو نتاج عدم التزام الدول الصناعية الكبرى بتعهداتها تجاه الدول النامية، بشأن توفير التمويل ونقل التكنولوجيات الحديثة لمجابهة التغير المناخي"، مشيرا إلى أنّ الحل الوحيد لهذه الأزمة، هو إعادة بناء الثقة في ظل الطموحات الصناعية الكبيرة للدول النامية التي لم تستفد من الثورة الصناعية التي تسببت في الأزمة المناخية الراهنة. وقبل أيام دعت الأمم المتحدة إلى أهمية تعزيز الاستثمار الكثيف في مصادر الطاقة النظيفة في دول العالم النامي، حيث أشار مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية "أونكتاد"، إلى حاجة الدول النامية لنحو 1.7 تريليون دولار استثمارات في الطاقة المتجددة سنويا، مؤكدا أنها لا تزال بعيدة حيث جذبت استثمارات أجنبية مباشرة في الطاقة النظيفة بنحو 544 مليار دولار فقط في عام 2022. ويؤكد مؤسس مبادرة كربون للاستدامة في مدن الشرق الأوسط كريم الجندي، أنّ الدول النامية تحتاج إلى المزيد من المساعدات المالية، وأيضا نقل التكنولوجيا الحديثة التي تساعدها على تقليل بصمتها الكربونية، مشيرا إلى تفاؤله بشأن زيادة المنح والقروض من الدول المتقدمة للدول النامية خلال هذا العام، لتحقق الهدف عند 100 مليار دولار، "رغم أنها لا تزال قليلة". ويأمل الجندي تكثيف الدول المتقدمة العمل من أجل توفير التمويلات والدعم المادي والتكنولوجي لبلدان منطقة الشرق الأوسط، من أجل زيادة الاعتماد على الطاقة النظيفة وتقليل الانبعاثات الكربونية.(المشهد)