يحتار المتابع في أي تصريح يصدّق من التصريحات التي يصدرها المسؤولون الأميركيون حول موقفهم من البرنامج النووي الإيراني.مستشار الأمن القومي مايك والتز افتتحها بالقول أن المطلب الأميركي هو أن "تتخلى إيران عن كل مكونات برنامجها النووي"، أي أن تتخلى طهران عن عملية تخصيب اليورانيوم من استخراجه وحتى تحويله الى ما يعرف بالكعكة الصفراء، وهو مطلب كرره الرئيس دونالد ترامب.ثم أعلن الرئيس الأميركي إجراء مفاوضات مع إيران، فقال مبعوثه للشرق الأوسط ستيف ويتكوف أن هدف أميركا هو أن لا تصنع إيران سلاحا نوويا، أي يمكنها مواصلة التخصيب ولكن تحت مراقبة ومع تعهدات إيرانية، وأيّد ترامب ويتكوفـ متراجعا عن موقف سابق له، وقال أن الهدف هو منع إيران من الوصول الى القنبلة.ثم أطل وزير الدفاع بيت هيغسيث ليقول أن على إيران أن تتخلى عن برنامجها النووي بأكمله، مستعيدا موقف والتز ومعاكسا الرئيس وويتكوف.هذه ليست إستراتيجية.. هذه أحجيةفي حالة تفكيك إيران كل برنامجها النووي يتم السماح لها باستخراج اليورانيوم وتخصيبه في دولة ثالثة تعيده لها قضبانا مخصبة بنسبة 20% بشكل يسمح لإيران استخدام هذه القضبان في برامج سلمية مثل انتاج الطاقة والأبحاث الطبية ولكنه يحرمها زيادة نسبة التخصيب، ما يضمن عدم قدرة إيران على تحويل برنامجها النووي الى عسكري.أما السماح لإيران بالإستمرار بعملية التخصيب مع مراقبته دوليا لضمان عدم تعديه نسبة 20% حتى لا يتم استخدامه في أهداف التسليح، فهو يعني أن لإيران القدرة على صناعة سلاح نووي ولكنها تمتنع عن ذلك بقرار منها مبني على اتفاق مع الولايات المتحدة.والاتفاقات الدولية غالبا ما تكون هشّة وعرضة للنقض في حال تغيرت أي من الحكومات التي وقعتها من الطرفين. كما أن إيران التي تكرر أنها تعارض أسلحة الدمار الشامل بسبب فتوى دينية، فسبق لمسؤوليها أن هددوا بتغيير عقيدتهم النووية من سلمية إلى عسكرية في حال تعرضت بلادهم لأي هجوم أميركي أو إسرائيلي.لا نعرف ان كان فريق ترامب ملم بهذه التفاصيل ويدرك الفارق بينها، فويتكوف تاجر عقاري ولا خبرة لديه في السياسة الدولية ولا يبدو مطلعا على تفاصيل القضية النووية الإيرانية العالقة منذ أكثر من عقدين.أما إيران، فالغالب أنها تدرك تماما ماذا تفعل، والأرجح أن هدفها الوصول إلى قدرة التسليح النووي، حتى لو لم تقم بإنتاج سلاح فعلا. كما تعلم إيران أن سبيل الوصول إلى قدرة التسليح النووي هو طريقة متعرجة تتطلب الصبر والتراجع أمام الرؤساء الصقور، مثل ترامب، وتجاهل الحمائم من الرؤساء الأميركيين، مثل الرئيس السابق جو بايدن.أما دول الإقليم، وخصوصا إسرائيل، فينتابها الذعر عندما تدرك أنه يمكن لإيران أن تصبح دولة "على عتبة" إنتاج السلاح النووي، فإسرائيل دولة فيها 10 ملايين مواطن يسكنون في بقعة جغرافية صغيرة وهو ما يجعل خوفهم من قنبلة نووية إيرانية خوفا وجوديا، وهو ما دفع رئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتانياهو إلى القول إن ما تريده إسرائيل هو أن ترى البرنامج النووي مفككا بالكامل، أي حسب تصريحات والتز وهيغسيث وعكس تصريحات ترامب وويتكوف.كذلك، تخشى دول الإقليم أن تنحصر الاتفاقية الأميركية الإيرانية المحتملة بالموضوع النووي من دون توقيع طهران على تعهد بوقف دعمها للمجموعات غير الحكومية المسلحة في الدول العربية، مثل "حزب الله" في لبنان و"الحوثيين" في اليمن والميليشيات الموالية لطهران في العراق.دبلوماسية استعراضية لصالح الأعداءيحبس العالم أنفاسه وهو يراقب فريق أميركي من الهواة يفاوض فريق إيران المتمرس والمعروف بطول باعه في تمييع الأمور حتى يحصل على مراده.ويحبس العالم أنفاسه وهو يراقب ترامب كل مسؤول في فريق سياسته الخارجية يناقضون بعضهم البعض من دون وجود أهداف معلنة، أو مضمرة، واضحة.أما مسؤولو إدارة بايدن، فيجزمون أن ترامب سيتوصل لاتفاقية تشابه التي توصل إليه سلفه باراك أوباما في العام 2015 ودخلت حيز التنفيذ في العام 2016. الفارق الوحيد بين الاتفاقيتين، يضيف المسؤولون الأميركيون السابقون، أن ترامب سيقدم اتفاقيته على أنها أكبر وأحسن وأذكى وأمهر اتفاقية عرفها الجنس البشري بين حكومتين، وهذا تصرف يشابه تصرفات الرئيس الأميركي السابقة لحيث عنايته الدقيقة بالانطباعات والتغطية الإعلامية أكثر منها بالمضمون والنتائج إذ هو يسمي أي نتائج سلبية ناجمة عن تصرفاته أو سياساته بالأخبار المضللة، وهو ما يعني أن لا مساحة للانتقاد أو التصويب.العالم يقف على مزاج حفنة من الأشخاص يقولون صباحا شيء ومساء شيء آخر، وهذا ليس سياسة دولية ولا إستراتيجية بل دبلوماسية استعراضية ترهب الأصدقاء وتطمئن الأعداء.