لم يمر احتفال يناير بالذكرى الـ79 لتأسيس الاتحاد العام التونسي للشغل كسائر الاحتفالات السابقة التي تحيي ذاكرى منظمة عريقة امتدت أمجادها من الكفاح التحريري زمن الاستعمار الفرنسي إلى الكفاح الاجتماعي بعد الاستقلال.. ماذا حصل للقلعة التي أسّسها شهيد الوطن فرحات حشاد لتكون مجمعًا لكل العمال التونسيّين بالفكر والساعد؟ ولماذا خفت بريقها على وقع خلافات داخلية بدأت تتحول فعلاً إلى جرس إنذار بحصول الأسوأ خلال الفترة القادمة؟ لقد تسارعت الأحداث بعد المؤتمر العام لسنة 2017 ذلك أن معطى جديدًا دخل على الخط داخل المنظمة الحائزة على جائزة نوبل للسلام بعد قيادتها لحوار وطني في صيف 2013 الدامية أدى إلى زعزعة عرش حكومة "الإخوان".تعديل الفصل 20 وهذا المعطى الجديد تمثّل في وجود خلاف عميق حول مصير التركيبة القيادية التي كان النظام الداخلي وتحديدًا في فصله العشرين يضبط وجودها لدورتين لا ثالث لهما. هنا دبّ الخلاف بين من اعتبر أنه لا مساس بمقررات مؤتمر 2017، وبين من بحث عن صيغ تنظيمية استثنائية لتغيير الفصل العشرين قبل حلول موعد المؤتمر العام لسنة 2022. وعلى الرغم من معارضة قياديّين بارزين وقطاعات نقابية وازنة لهذا التوجه ومنها قطاع التعليم، فإن القيادة الحالية مضت قدمًا في إجراءات تحوير النظام الداخلي عبر الدعوة إلى مجلس وطني أفرز بدوره قرارًا بعقد مؤتمر غير انتخابي في خريف 2021 تمت خلاله المصادقة على تعديل الفصل 20 بما مكّن القيادات التنفيذية من تمديد عهدتها خلال المؤتمر العام الانتخابي لسنة 2022.وقد تزامن مع كل هذه المنعرجات تنازع وصل إلى أروقة القضاء بين الشقين نتج عنه حكم ابتدائي لفائدة المعارضة في مرحلة أولى وحكم استئنافي لفائدة القيادة في مرحلة ثانية. وكانت هذه التنازعات مؤشرًا لضرب الوحدة النقابية في أقوى المنظمات الوطنية، فأثّرت على أنشطة اتحاد الشغل وقلصت من إشعاعه وفاعليته الحركية والتفاوضية. في الأثناء كان هناك عوامل أخرى شديدة الأهمية ومنها صعوبة تأقلم المنظمة مع خصوصيات الواقع السياسيّ الجديد بعد تثبيت مسار 25 يوليو، فالسلطة المنبثقة عن هذا المسار كانت ذات خلفيّة اجتماعية واضحة منحازة إلى عموم الكادحين، فقاومت التشغيل الهش، وتمسكت بمنظومة الدعم ورفضت إملاءات صندوق النقد الدولي وقررت عدم التفريط في المؤسسات العمومية، وكلها توجهات كان اتحاد الشغل يستأثر بها تقريبًا ويدافع عنها ضد الحكومات المتعاقبة قبل مسار 25 يوليو.وفعلًا حصل نوع من صعوبة استيعاب الوضع الجديد الذي لم يعد يحتم الصدامات والإضرابات بقدر ما يحتّم التفاعل بطريقة مغايرة مع المستجد السياسيّ والاجتماعي. وعلى الرغم من الفتور الذي شاب علاقة الاتحاد بالسلطة خلال الأعوام المنقضية، فإن هذه الأخيرة ظلت بمنأى عن الشؤون الداخلية للاتحاد ولم تتدخل في الصراع الراهن.مواجهة التغول "الإخواني"وبالتالي فإن ما يحدث من تمزق في الصف النقابي هو وليد صراع تنظيمي صار يثير مخاوف حقيقية بأن تؤخذ هذه القلعة الحصينة من الداخل. فالذي حصل في شهر يناير 2025 هو منعرج كبير، إذ لم تعد المسألة محض نزاع بين قيادة ومعارضة، بل صارت ساحة تجاذب قوي بين 3 معسكرات: معسكر المعارضة من خارج القيادة الذي أعلن الاعتصام بتاريخ السبت 25 يناير طالبًا رحيل القيادة بأكملها وتكوين لجنة وقتية تشرف على تحضير مؤتمر عام، ومعسكر من داخل القيادة مكون من 5 أعضاء مكتب تنفيذي نظم ندوة صحفية ليطالب بعقد المؤتمر في السداسي الأول من سنة 2025، وباستقالة الأمين العام نور الدين الطبوبي، ومعسكر يضم 10 أعضاء من المكتب التنفيذي يصرّ على عدم التعجيل بالمؤتمر وإرجائه إلى موعده المفترض في 2027. 3 جبهات لا تجمع بينها كلمة، وهكذا تفرقت الكلمة، وصار أكبر المتفائلين ينادي بتدخل الحكماء والقدماء في المنظمة لإنقاذ الصورة العامة لاتحاد الشغالين ولملمة الصفوف. ولا نبالغ إن قلنا إن المنظمة تشهد الآن إحدى أكبر أزماتها، وهذا أمر شديد التأثير على المشهد التونسي عموما، فنحن نتحدث عن اتحاد عمال قاد باقتدار وقوة عديد المعارك الوطنية والاجتماعية منذ تأسيسه، بل وشكّل خلال فترة السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي محركًا لقياس درجات التوتر أو الاستقرار في المشهد الوطني، هذا إضافة إلى إسهاماته البينة في مواجهة التغول "الإخواني" خلال حكم حركة النهضة؛ فهل يعلو صوت العقل على صوت انفعالات اللحظة؟هل ينتبه النقابيون التونسيون إلى خطورة ما يحصل من تصدّع؟ والأهم هل ينتصر الموضوعيّ على الذاتيّ والجوهريّ على العرضيّ؟ الأكيد أن في كل فصل من تاريخ تونس الحديث سطورًا خطّها اتحاد الشغل بنضالاته وأمجاده، لكن الأكثر تأكيدًا هو أي مكان سيكون للاتحاد في المستقبل، وهذا أمر موكول إلى عودة البريق بعودة وحدة الصف.