على الرغم من الجهود الأميركية الحثيثة خلال الأسابيع الماضية لتهدئة الأمور فإن المناوشات بين واشنطن ووكلاء إيران في المنطقة لم تتوقف ولا تزال مستمرة. واللافت أن هذه الضربات المتبادلة بين "القوة العظمى أميركا" والميليشيات المدعومة بشكل كامل من إيران تبدو حتى هذه الساعة خارج إطار السيطرة وهي مرشحة للاستمرار إلى أجلٍ غير محدد المعالم. مشهد سريالي وضع إدارة الرئيس الديمقراطي جو بايدن في موقف حرج لا تحسد عليه وذلك قبل أشهرٍ قليلة فقط من انتخابات رئاسية أميركية حامية يترقب نتائجها العالم أجمع.التباينات الفاقعة بين واشنطن و"حلفائها الخليجيين" نظرياً من المفترض أن يكون هذا الواقع الجديد الذي يظهر فيه تخبط إدارة الرئيس بايدن جلياً والمليء بالإخفاقات والتناقضات وفشل السياسات في هذه المنطقة الإستراتيجية قد وضع صناع القرار الأميركيين في حالة الإنذار القصوى. خصوصا وأنه دخل في الأيام الماضية مرحلة جديدة من التعقيد، إذ بدأت الخلافات والتباينات الفاقعة بين واشنطن و"حلفائها الخليجيين" تظهر بوضوح إلى العلن للمرة الأولى. مع العلم أن الحديث عن هذا الموضوع الحساس كان في السابق يعد من "التابوهات المقدسة" وأسير الأروقة والغرف المغلقة فقط. فبعد التباين الواضح فيما يخص ملفات إقليمية ودولية عدة كان آخرها الحرب في غزة والملاحة في البحر الأحمر ورفض أي من الدول الخليجية الفاعلة الانضمام إلى تحالف"حارس الازدهار" الذي تقوده واشنطن، بدأت التسريبات حول عدم تسهيل دول الخليج لمهام القوات الأميركية في حملتها المستجدة على وكلاء إيران في المنطقة. وفي هذا الإطار، نشرت صحيفة "بوليتيكو" الأميركية مقالاً قالت فيه إن بعض الدول العربية، بما في ذلك دولة الإمارات العربية المتحدة، تعمل على تقييد استخدام الولايات المتحدة للمنشآت العسكرية خلال شن غارات جوية تستهدف وكلاء إيران في المنطقة. طبعاً هذا المحتوى وعلى الرغم من أنه غير رسمي ونُسب إلى مسؤولين أميركيين وغربيين اشترطوا عدم الكشف عن هوياتهم فقد تم تداوله إعلامياً وسياسياً بشكلٍ واسع، خصوصا وأنه يعد أول رسالة أميركية واضحة تشير إلى توترٍ ما في العلاقة مع أصدقائها الخليجيين وبالأخص دولة الإمارات. ولا شك بأن ما أكسب هذا المحتوى الكثير من الأهمية وأعطاه جرعة كبيرة من المصداقية هو عدم صدور أي رد أميركي رسمي عالي المستوى لنفيه وليجزم بعدم وجود أي توتر مع أبو ظبي أو غيرها من العواصم الخليجية الأخرى. من يقرأ بين سطور مقال "بوليتيكو" سيتوقف مطولاً عند 3 نقاط رئيسية وردت فيه. أولها من دون شك هو الهدف من نشر هذا المحتوى، فهل هو لتحميل دول الخليج مسؤولية فشل إدارة بايدن في السيطرة على الوضع المتفلت في المنطقة والذي يعتبر مرتبطا بشكلٍ أساسي بما يجري في غزة؟ أما النقطة الثانية فهي ذكر دولة الإمارات العربية بالاسم بخلاف الدول الخليجية الأخرى التي تتشارك نفس الموقف مع أبوظبي، وهنا تساءل البعض في الخليج عما إذا كان هذا المحتوى يهدف لشق صفوفهم وإظهار أن هناك تباينا فيما بينهم؟أبوظبي موقفها واضح من طهران وإسرائيل وأخيراً إشارة "بوليتيكو" إلى أن السبب وراء قيام الإمارات على وجه الخصوص بذلك هو "لأنهم لا يرغبون في الظهور وكأنهم ضد إيران أو بأنهم قريبون جداً من الغرب وإسرائيل أمام الرأي العام الداخلي". وفي الحقيقة كان من الصعب في الإمارات هضم هذه النقطة بالتحديد خصوصا وأن أبوظبي موقفها واضح من طهران وإسرائيل، كما أنها أكثر من قريبة إلى الغرب إذ تعتبر دولة صديقة وحليفة لمعظم الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة. والأهم أن قادتها ليسوا قادة شعبويين بل هم على العكس يتمتعون بشعبية ومصداقية واسعة بين مواطنيهم وبالتالي هم ليسوا بحاجة لهذا النوع من المضمون الشعبوي. الأكيد أنه إذا ما أردنا الغوص في الأسباب الحقيقة لعدم تسهيل دول الخليج ومنها أبوظبي لمهمة واشنطن في ضرب وكلاء إيران في المنطقة فسنجد من دون عناء لائحة طويلة من الأسباب المنطقية والعاقلة وراء هذا التوجه. فمثلاً ما مصلحة دولة الإمارات اليوم في القيام بذلك وتخريب ترتيبات أمنية رسمت بعناية بعيداً عن واشنطن وأرست الهدوء والاستقرار في المنطقة وذلك بعيد التوجه المثير للجدل لإدارة بايدن بالخروج الأمني منها؟ أو مثلاً لماذا تتحرك أبوظبي اليوم للدفاع عن المصالح الأميركية في وقت لم تحرك إدارة بايدن ساكناً عندما تعرضت المدن الإماراتية لهجمات من قبل ميليشيات الحوثي في بداية عام 2022؟ وهي بالمناسبة هجمات استعملت فيها نفس الصواريخ البالستية والمسيرات الإيرانية المستخدمة اليوم ضد المصالح الأميركية، والتي استخدمت آنذاك لضرب منشآت مدنية وعسكرية إماراتية ومنها قاعدة الظفرة التي يتواجد فيها جنود أميركيون. على أية حال ولحسم هذه المسألة فيمكن الجزم بأن تسهيل العواصم الخليجية للمهام العسكرية المرتبطة بملف البحر الأحمر ليس لديه تأثير محوري على مسار العمليات الأميركية هناك وذلك في ظل تعدد خيارات واشنطن العسكرية في المنطقة. لذا وجب التوقف اليوم وبشكل جدي عند المشكلة الحقيقية فيما يخص هذا الملف، والقول بشجاعة إن المشكلة الحالية هناك ليست مرتبطة بتعاون دول الخليج من عدمه، بل هي نتيجة رهانات أميركية خاطئة على طهران ووكلائها في المنطقة ومن ضمنها ميليشيات الحوثي."أسوأ أنواع العميان هو من لا يريد أن يرى"أما بخصوص التوتر في العلاقة بين العواصم الخليجية وواشنطن فيمكن التأكيد بأن للولايات المتحدة مكانة خاصة ومميزة عند الخليجيين. وهم وعلى رأسهم أبو ظبي لطالما اعتبروا واشنطن حليفا وشريكا إستراتيجيا وصديقا تاريخيا لهم، والأهم أنهم متمسكون حتى الساعة بهذه العلاقة. لكن في نفس الوقت لا يمكن تجاهل أن هناك "مشكلة" في العلاقات الخليجية الأميركية وأن هناك استياء خليجيا من واشنطن وأن الأخيرة فقدت مصداقيتها عند الخليجيين بسبب ما يعتبرونه الكثير من التعاطي الأميركي الخاطئ بحقهم، بالإضافة إلى التجاذبات الحادة بين الإدارات الديمقراطية والجمهورية في التعاطي معهم. هذا فيما يقول البعض إن دول خليجية عدة وضعت علاقتها مع واشنطن قيد الدرس والمراجعة الجدية، وإن بذور هذه المراجعة ليست وليدة اليوم بل تعود بشكل أساسي لعام 2011 وقت التعامل المريب لإدارة الرئيس الديمقراطي السابق باراك أوباما مع ما سمي بـ"ثورات الربيع العربي. يقول المثل الفرنسي إن "أسوأ أنواع العميان هو من لا يريد أن يرى"، لذا وجب على صناع القرار في واشنطن اليوم أن يفتحوا أعينهم جيداً ويقبلوا فكرة أن هناك مشكلة جادة تعكر صفو العلاقة مع حلفائهم الخليجيين، وأنه يجب حلها بأسرع وقتٍ ممكن طالما أمكن القيام بذلك. الكرة الآن في الملعب الأميركي، فهل يقدم الساسة الأميركيون على هذه الخطوة أم ستذهب العلاقات الخليجية الأميركية نحو المزيد من التأزم والتعقيد؟