حلت الذكرى الـ28 لاغتيال رئيس الحكومة اللبنانية الأسبق رفيق الحريري في وقت يعاني لبنان فيه من أزمة كبرى وعميقة على مختلف الصعد السياسية والاقتصادية والمالية والاجتماعية.ولعله من المفيد التذكير أن اغتيال الحريري مثل عملا انتقاميا من الذي كان يرمز إلى حقبة النهوض وإعادة الإعمار إثر حرب أهلية دامت أكثر من 15 عاما، أدت إلى تدمير لبنان، وإعادته ربع قرن إلى الوراء. وقد تمكن الحريري خلال ممارسته الحكم ومن ضمن ضوابط كثيرة، أن ينقل لبنان من مرحلة الحرب والتدمير إلى مرحلة الإعمار والتنمية السريعة الخطوط، حتى غدا لبنان، وعلى الرغم من كل العثرات والعقبات التي اعترضت طريقه من أن تخطو خطوات كبيرة إلى الأمام، فيما كان لبنان لا يزال يرزح تحت وصاية سورية مشفوعة بوكالة دولية منذ تسعينيات القرن الماضي. ولقد كان مشروع رفيق الحريري في لبنان يقوم في أحد وجوهه على مبدأ تكبير حجم الاقتصاد ونقل البلاد إلى مرحلة من الازدهار والرفاهية بما يسهل لاحقا بلوغه مرحلة الاستقلال التام والناجز من خلال استكمال تطبيق "اتفاق الطائف" الذي نص على خروج جميع الجيوش الأجنبية من لبنان، وحل جميع المليشيات مع ضبط كل سلاح غير شرعي على الأرض اللبنانية في إطار بسط سيادة الدولة دون سواها، من دون أن ننسى بند المخيمات الفلسطينية المنتشرة على الأراضي اللبنانية، حيث كانت مدعوة إلى الانضواء تحت سلطة الدولة اللبنانية وحمايتها الكاملة تزامنا مع تجريدها من كل سلاح، وخصوصا أن سلاح المخيمات الفلسطينية في لبنان ما عادت له أي وظيفة سوى توجيه رسائل دموية بين تنظيمات متناحرة، لم تعد منذ أمد بعيد أهدافا للقوات الإسرائيلية. كان رفيق الحريري يسعى أن يكون لبنان على وفاق تام مع سوريا، لكنه كان يطلب دائما أن تتطور العلاقة بين البلدين الجارين من علاقة بين دولة في سوريا وبين شتات سياسي في لبنان، أي أن تكون علاقة نظامية بين بلدين جارين تجمعهما علاقات القربى والتاريخ والجغرافيا والمصالح المشتركة. وعلى صعيد آخر، كان الحريري ينظر إلى طبيعة التركيبة اللبنانية بتوازناتها الدقيقة القائمة على التنوع الطائفي والمذهبي والثقافي على أنها مصدر غنى، لكنها دقيقة جدا وقابلة للتخريب من الداخل والخارج في آن معا. ومن هنا حرص دائما على التمسك باتفاق الطائف وروحيته بمعنى أن تقوم مساواة وشراكة في إدارة شؤون البلاد بين المسلمين والمسيحيين بصرف النظر عن أي معطى ديموغرافي في الحاضر أو في المستقبل. ولعل العلاقة الأدق التي كان الحريري يتوق إلى أن تتعزز كانت مع المكون الشيعي في البلاد الذي يعادل وزنه الديموغرافي وزن المكون السني، فضلا عن أن الحريري وكونه ابن الجنوب اللبناني (من مدينة صيدا) كان يدرك مدى المآسي التي عاشها أبناء تلك المنطقة منذ منتصف السبعينيات من القرن الماضي، عندما بدأت العمليات العسكرية الإسرائيلية تتكثف ضد المنظمات الفلسطينية التي كانت تتخذ من لبنان منصة للانطلاق بعملها العسكري ضد إسرائيل في وقت كانت بقية الجبهات في ما كان يسمى بـ"دول الطوق " مقفلة تماما أمام العمل الفلسطيني المقاوم. وكثيرا ما كان الحريري يبدي حرصه على أن تكون علاقته الصعبة مع التنظيم الأقوى في المكون الشيعي أي "حزب الله" جيدة تقوم على مبدأ الشراكة في حماية مشروع النهوض والإعمار وأن تشمل جميع اللبنانيين من كل الفئات والملل. وعلى الرغم من محاولات الحريري المتكررة جعل علاقته مع "حزب الله" جيدة ومستقرة، فإنه كان يجابه على الدوام بموقف سلبي، ربما لأنه كان يتمتع بشبكة علاقات عربية ودولية لم يسبق لشخصية سياسية لبنانية أن تمتعت بها في وقت كان الحزب المذكور يجابه عربيا ودوليا بسلبية كبيرة كتنظيم مصنف في قوائم الإرهاب العالمية. وفي العام الذي سبق اغتيال الحريري في شهر فبراير من العام 2005 كان الحريري كمحرك للنهج الاستقلالي للبناني إلى جانب البطريرك الماروني آنذاك نصرالله بطرس صفير، والزعيم الدرزي وليد جنبلاط ومعظم القوى والشخصيات المسيحية يراهن من أجل الاتجاه نحو الاستقلال اللبناني على محاورة "حزب الله" واقناع قيادته بأنه يمكن للبنانيين أن يديروا بأنفسهم شؤونهم بعيدا عن أي وصاية من أي نوع كانت، وراهن أن يكون المكون الشيعي الذي كان واضحا أن "حزب الله" بات القوة الكبرى فيه محور الحوار ومعه ركن أساسي في التوازن الداخلي الجديد بعد انتهاء الوصاية واستقلال لبنان، وانطلاق مسيرة بناء الدولة المستقلة والمتصالحة مع نفسها. في عام 2004، جرى حوار سري على مراحل عدة بين الحريري والأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصرالله، ثم توقف قبل 3 أشهر من اغتيال الأول، وذلك قبل أن تحصل محاولة اغتيال للوزير والنائب في البرلمان مروان حماده المقرب من الحريري وجنبلاط، مما أشار إلى ان لبنان كان يسير بخطى متسارعة في اتجاه مرحلة من العنف السياسي المبرمج. ثمة من يعتقد أن الحريري الذي كان يريد قيام علاقة دولة لدولة مع سوريا، أدمج "حزب الله" في مشروع إقامة دولة مستقلة على وفاق مع كل محيطها، حداثوية ومزدهرة دفع حياته ثمنا للانقلاب الذي حصل ضده من خلال اغتياله بأكثر من طنين من المتفجرات في قلب بيروت. وللتاريخ لا بد من التذكير أن المحكمة الخاصة بلبنان في لاهاي في هولندا، التي نظرت في جريمة الاغتيال التي صنفت إرهابية، أصدرت أحكاما مبرمة في حق 4 مسؤولين أمنيين منتمين إلى "حزب الله" ثبت تورطهم في الجريمة. شكل الحريري بارقة ضوء في الظلمة التي أحاطت بلبنان، وربما اغتيل لهذا السبب لأن مشروع نسف أسس الكيان اللبناني وتحويل البلاد إلى منصة انطلاق لخدمة وظيفة إقليمية معروفة كان ولا يزال في أساس الأزمة المهولة التي كانت ولا تزال تعصف به.