لسوريا وجهها التاريخي والحضاري والإنساني، هذا الوجه أكبر وأعمق وأغنى ممن حكم، وممن سيحكم، وهذا ما يجب، فسقوط أي نظام، أو رحيله، يجب ألا يعني البتة إسقاط الوطن، وتضييع هويته وعبق تاريخه، وتغيير معالمه وملامحه، وبعثرة جغرافيته، خصوصا إذا كان أهل الوطن تواقين لمستقبل أفضل بكل ما تحمله كلمة أفضل من مناح ومعان. ليس من حق أحد أن يفسد على السوريين المبتهجين فرحتهم بما حصل، وليس من الإنصاف أن يطالبهم أحد بتقنين الفرح بتغيير حصل وربما ظن كثير منهم أنه من المستحيلات، ولن يحصل إلا بالمعجزات، لكنه حصل، واختلفت الروايات والتحليلات عن هذا السقوط للنظام بأيام قليلة، لدرجة أن السوري نفسه كاد ألا يصدق ما تراه عيناه. هذا الفرح للسوريين امتزج بالصدمات وقشعريرة الأبدان لما رأوه تحت الأرض من أقبية السجون، وأحوال المسجونين، وتفنن السجانين في انتهاك قدسية الإنسان ليدركوا في ما بعد أن ما كان يروى عن ذلك ما هو إلا القليل مقارنة بما شوهد في الواقع، لأن الكثير المفزع لم يكن أحد ليرويه إما لموت الشاهد المعذَّب تحت التعذيب، أو حبسه تحت الأرض حتى موته، لكن كتب له الفرج والإفراج قبل أيام، وأيضا لأن الشاهد المعذِّب حتما لن يروي للناس كيف كان يعذب. لماذا سقت هذا الكلام عن هول ما يشاهد الآن في لجة حديثي عن سوريا التاريخ والحضارة، وعن وجهها المشرق عبر قرون من الزمن، بل آلاف السنين. سقته لتأكيد حق السوريين في الابتهاج، وحقهم في الأمل والعمل لمستقبل أجمل، فنشوة الفرح تدوم يوما.. يومين، أو قل لعشرة أيام خصوصا في غمرة الصدمات والمفاجآت، ثم بعد النشوة تبدأ الأمور في توضيح بوصلتها وأشكالها ومعالمها ونهجها، فالسوري الذي يفرح الآن حتما يريد أن يرى ثمار هذا الفرح من دون أي تنغيص ولا انقلاب في التوقعات والآمال، ويريد أن يعيش كما وُعد به من حرية وكرامة وازدهار في وطن أهم ما سيرى فيه أنه سوريا التي حكى التاريخ عن أمجادها منذ آلاف السنين، وأنه سوريا التي حافظت على تعاقب الحضارات، وسوريا التي تألمت ورجا أهلها شفاءها، وأن هذا الوطن هو سوريا التي لكل السوريين بعيدا عن الحسابات السياسية وفقا لموازين القوى والمخططات. سوريا التي يجب أن تبقى موئل الآداب والفنون، والنتاجات الحضارية، سوريا التي يجب أن تُعمّر بما يلحق بركب الحداثة، من دون تشويه أسواقها القديمة وأسمائها العتيقة، ومن دون أن تتغير رائحة ياسمينها.