ثمة مقولة متداولة ترسخت في أذهان المجتمعات على مر الأزمان مفادها أن أسوء أنواع الناس هم من يغتنون حين تفتقر شعوبهم. وهؤلاء بدورهم أنواع، من يتاجر بأرضه ووطنه في مزادات التذلل للخارج، ومن يتاجر بدينه في مزادات السياسة، ومن يتاجر بقوت الناس في أيام الشدة وضيق الحال. والأهم أن هذه الأنواع من المحتكرين كبارهم وصغارهم يندمجون عادة في شبكة تحالف ضد الوطن والإنسان، وقد يشكلون معا منظومة حكم، فتكون المأساة على أشدها.تفكيك الذراع السياسي لمنظومة الفساد لقد عاشت تونس فعلا أطوار مأساة مشابهة حين حكمها ذات عشرية حزينة تحالف بغيض بين تجار الدين وتجار المبادئ وتجار البضائع. وكان طبيعيا أن يباشر مسار 25 يوليو منذ انطلاقه حربا مفتوحة ضد هذه التعبيرات لتفكيك نظامها وبناء الجديد على أنقاضها. وإن نجحت عملية تفكيك الذراع السياسي لمنظومة الفساد بشكل ملحوظ، فإن القضاء على أذرعها المالية والإدارية يظل في معركة مسترسلة ومفتوحة لا تهدأ لها وتيرة، وهذا ما يحصل حاليا بمناسبة حلول شهر رمضان ضد من يعمدون إلى احتكار المواد المعيشية الضرورية ليبيعوها بأبهض الأثمان ويضاعفوا معاناة المواطنين. لا يمكن إنكار حقيقة أن تشعب مسالك الاحتكار في تونس يجعل المواجهة صعبة للغاية. فقد تكونت في البلد عصابات من جميع الأنواع من محتكري دقيق الحنطة إلى محتكري الزيت والقهوة والسكر إلى محتكري الخضراوات والغلال إلى محتكري أعلاف الماشية. والأدهى أن لكل زمرة من هؤلاء جيوب خفية تحميها، بعضها يتموقع في الإدارة والأجهزة الحساسة منذ أيام حكم "الإخوان". هذا ما جعل تحركات الدولة تتوزع على أكثر من حقل مواجهة، مواجهة ميدانية تخوضها أجهزة الرقابة الاقتصادية أفضت إلى كشف مستودعات ضخمة لتخزين المواد الأساسية ومصادرة محتوياتها وتقديم أصحابها للعدالة، ومواجهة أشمل تتمثل في التطهير الإداري وتعقب أوكار الفساد والرشوة داخل القطاع الوظيفي.رقابة واسعة ولقد أعلن الرئيس قيس سعيد في اجتماعاته مع الوزراء والهياكل الرقابية المتداخلة وفي زياراته الميدانية إلى الأحياء والأسواق أن الحرب على الاحتكار هي من أسس حرب الحرير الوطني التي تخوضها تونس ضد من استباحها من لوبيات الفساد والاقتصاد الريعي، كما أكد على ذلك الترابط الواضح والجلي بين المضاربين بقوت الشعب وبين شبكات التخريب السياسي التي يراودها حنين يائس للعودة إلى الحكم من بوابة إثارة الغضب الاجتماعي على الأوضاع المعيشية. والواقع أن تمظهرات العمل الدؤوب الذي انطلق حال تفعيل مسار 25 يوليو بدأت تبرز تدريجيا، فرغم تواصل صعوبات التزود بالمواد الأساسية، وارتفاع أسعارها، فإنه لا مجال للمقارنة بين شهر رمضان الحالي، وذات الشهر من السنة الماضية. إن المواد الأساسية التي غابت عن الأسواق في رمضان الماضي كالقهوة والزيت والسكر تتوفر الآن في المساحات التجارية بكمية معقولة، وهذا كان نتيجة لحملات ردعية متواصلة طالت الحيتان الكبرى والصغرى للنشاط الاحتكاري. لكن هذا لا ينفي أن الإشكال الأكبر هو التناقض الصارخ بين حقيقة الأسعار المشطة وبين دخل المواطن المحدود، وهو ما يمثل تحديا تعكف السلطات على مجابهته بإجراءات مختلفة، منها تعديل السوق عبر دعم بعض المواد على غرار طرح كمية من زيت الزيتون المعلب في المساحات التجارية بأقل من سعرها الحقيقي، أو عبر استيراد كميات من الموز واللحوم الحمراء لبيعها بسعر معقول أو عبر تحفيز المنتجين والتجار على خفض أسعار بعض المواد تكريسا للمسؤولية المجتمعية والتضامن الوطني في مواجهة الأزمة الاقتصادية. يقال إن أصعب الأمور بداياتها، وهذا بديهي، ولقد كانت البدايات في مسار تونس الجديد صعبة وشاقة، لكنها وضعت حجر الأساس لتغيير السلوكات والعقليات، بعيدا عن المزايدات الشعاراتية وبيع الأوهام. وهذا تحديدا ما يشير إلى تطورات مستقبلية واعدة.