شهدت القضية الفلسطينية في الأشهر الأخيرة تطورات خطيرة أدت إلى انتكاسات كبرى، أثرت بشكل مباشر على مستقبل الشعب الفلسطيني وتطلعاته نحو إقامة دولته المستقلة. فبعد أعوام من الجمود السياسي وتعثر المفاوضات بين قيادة فلسطينية تعاني من الانقسام والضعف، وحكومة إسرائيلية تتبنى سياسات متشددة، تصاعدت الأوضاع بشكل غير مسبوق في 7 أكتوبر 2023، إذ شنت حركة "حماس"، التي تسيطر على قطاع غزة منذ عام 2007، هجومًا عسكريًا مفاجئًا أطلقت عليه اسم "طوفان الأقصى".وكان هذا الهجوم الأكثر دموية في تاريخ إسرائيل، إذ أسفر عن مقتل قرابة 1,200 شخص وإصابة حوالي 7,500 آخرين، معظمهم من المدنيين، إضافة إلى اختطاف نحو 250 شخصًا واحتجازهم داخل قطاع غزة. ووفقًا لحركة حماس، فقد كان هذا الهجوم "خطوة ضرورية واستجابة طبيعية لمواجهة الاحتلال الإسرائيلي، وإنهاء الحصار الجائر على قطاع غزة، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس". غزة.. من الحصار إلى الدمار عمليًا، أرادت حركة "حماس" من خلال هذا الهجوم العودة إلى "الخيار الأول"، أي الخيار العسكري، بهدف الضغط للتوصل إلى حل عادل للقضية الفلسطينية. لكن يبدو أن حسابات "حماس" لم تكن دقيقة، إذ جاءت النتائج كارثية وانعكست سلبًا على القضية الفلسطينية. فردًا على هذا الهجوم، أطلقت إسرائيل حملة عسكرية غير مسبوقة تحت اسم "السيوف الحديدية"، بقيادة رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو، واستمرت لأكثر من 14 شهرًا. وأسفرت هذه العملية عن مقتل عدد كبير من قيادات "حماس"، إلى جانب أكثر من 40 ألف فلسطيني، وإصابة قرابة 100 ألف آخرين. وبدلًا من تحقيق أهدافه، أدى هجوم 7 أكتوبر إلى تفاقم الأوضاع، حيث تعرض قطاع غزة لدمار شامل، وتحول إلى منطقة منكوبة غير قابلة للحياة. ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل أدى إلى تهجير أكثر من 90% من سكان القطاع، مع توسيع إسرائيل سيطرتها على المزيد من الأراضي الفلسطينية. في ظل هذا الواقع المأساوي، ومع تصاعد المخاوف من استمرار التصعيد وتداعياته الإنسانية الكارثية، تحرك المجتمع الدولي بحثًا عن خيارات بديلة. وفي هذا السياق، فاجأ الرئيس الأميركي دونالد ترامب العالم في 5 من الشهر الجاري، بطرحه ما سماه "الخيار الثاني" لغزة، والذي يقضي بتهجير سكان القطاع إلى دول مجاورة مثل مصر والأردن، أو نقلهم إلى دول أخرى، مع وضع غزة تحت السيطرة الأميركية وتحويلها إلى "ريفييرا الشرق". رفض عربي قاطع وموحّد لخيار التهجير أثار هذا الطرح ردود فعل واسعة، تراوحت بين اعتباره محاولة لإنهاء الوجود الفلسطيني في غزة، أو كونه حلاً عمليًا للأزمة الإنسانية المتفاقمة. لكن في كل الأحوال، دخلت القضية الفلسطينية مرحلة جديدة من التعقيد، حيث لم يعد "الخيار العسكري" وحده هو التهديد الأكبر، بل بات "خيار التهجير" والسيناريوهات السياسية المطروحة على الطاولة عوامل قد تعيد رسم معالم الصراع. إزاء هذا الواقع، تحركت الدول العربية بشكل جماعي وحازم في الأسابيع الماضية، رافضةً خيار تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة. على الرغم من الضغوط، أكدت الدول العربية، بلا استثناء، رفضها القاطع لمقترح ترامب. فالموقف المصري كان واضحًا، إذ رفضت القاهرة بشكل قاطع وكلي خيار التهجير. كما كان موقف المملكة العربية السعودية صارمًا ولافتًا في هذا الاتجاه، إذ أكدت الخارجية السعودية أن "موقف المملكة من قيام الدولة الفلسطينية هو موقف راسخ وثابت لا يتزعزع، وهذا الموقف الثابت ليس محل تفاوض أو مزايدات"، وأن "المملكة لن تقيم علاقات دبلوماسية مع إسرائيل دون ذلك". وهنا، لا بد من الإشارة إلى الموقف الحاسم والجريء للملك عبدالله الثاني، الذي زار البيت الأبيض في أوج هذه الأزمة، وأبلغ الرئيس ترامب بشكل واضح رفض الأردن القاطع لخيار التهجير. كما شدد، من قلب واشنطن، على تمسك العرب بصياغة "خيار ثالث" يحمي غزة، ويحافظ على حقوق الفلسطينيين، ويؤكد ضرورة قيام دولة فلسطينية مستقلة كجزء من حل شامل ومستدام للصراع الممتد منذ أكثر من 77 عامًا. القمة الخماسية في الرياض.. نحو "خيار ثالث"وفي هذا السياق، تتوجه الأنظار خلال الساعات المقبلة إلى العاصمة السعودية الرياض، حيث ستُعقد قمة عربية خماسية تضم مصر، والسعودية، والأردن، والإمارات، وقطر، لبحث الخطوات العملية لمواجهة خطة ترامب بشأن التهجير. كما سيتم العمل في الرياض على صياغة "خيار ثالث" يتضمن إعادة إعمار غزة، وطرح حلول تضمن بقاء الفلسطينيين على أرضهم، مع ضمان الاستقرار الإقليمي في المنطقة. بين كارثة الخيار العسكري الذي خلّف أزمة إنسانية غير مسبوقة، ورفض عالمي لخيار التهجير القسري، يسعى العرب اليوم إلى بلورة خيار ثالث إنقاذي. خيار عربي واقعي بعيدًا عن الشعبوية والاتجار بالقضية الفلسطينية، يضمن بقاء الفلسطينيين في أرضهم، وفي الوقت نفسه يضمن التهدئة ومسار التوصل إلى تسوية تاريخية تؤدي إلى سلام مستدام في هذه الأرض التي تعاني منذ عام 1948. طبعًا، عملية صياغة هذا الخيار الثالث ليست سهلة، إذ تواجهها عقبات عدة، أبرزها قبولها من قبل الأطراف كافة، إضافة إلى ضرورة تقديم تنازلات صعبة لإنجاحه. لكن في المحصلة، يبدو هذا الخيار العربي اليوم هو الأمل الأخير للحفاظ على الحقوق الفلسطينية، وإيجاد حل شامل ومستدام يعيد للقضية الفلسطينية زخمها الدولي، ويفتح الطريق أمام مستقبل أكثر استقرارًا للمنطقة بأسرها. فهل سيتم التعامل مع هذا الخيار الثالث بواقعية وبراغماتية، بعيدًا عن الشعارات والرهانات الخاطئة، أم أن التعقيد سيستمر، ليبقى الشعب الفلسطيني هو الخاسر الأكبر؟