"يحدث أحيانًا أن ننغلق على أنفسنا في حكايتنا الشخصية، بما يمنعنا من متابعة الدور الثانوي الذي نلعبه في حكايات الآخرين".ترامب رجل يتقن صناعة الفرجةيحب الأميركيون تحويل كل حدث إلى قضية رأي عام، وإلى مسلسل أو بالأحرى فيلم هوليوودي يختلط فيه الواقع بالخيال، الحقيقة بالكذب، والجد بالهزل، لذلك لم يكن من المستغرب أن يتحول سباق الانتخابات الرئاسية إلى عنوان يشد انتباه العالم بأسره، خصوصًا مع وجود رجل يتقن صناعة الفرجة مثل الرئيس السابق دونالد ترامب، في رهانه الحثيث للعودة إلى البيت الأبيض الذي غادره قبل 4 أعوام.أسعى، كعادتي في كل مرة، إلى تجنب تقديم تصورات أو تحليلات مباشرة حول هذا الموضوع أو ذاك، بل أميل إلى العودة لحقلي المحبوب والمفضل: الأدب، حيث يربط ذهني دائما بين حدث ما وعمل أدبي أو مجموعة أعمال أدبية تناولت الموضوع ذاته بأسلوب سردي يتجاوز التقريرية المباشرة.ما إن بدا أن الانتخابات الأميركية ستشهد زخمًا مختلفًا بانسحاب الرئيس جو بايدن وتسلم كامالا هاريس مهمة مواجهة ترامب، حتى تذكرت رواية مميزة، قرأتها عام 2019، تحمل عنوان The Nix أو Les fantômes du vieux pays (أشباح البلد العجوز) في ترجمتها الفرنسية، بقلم الروائي الأميركي الشاب ناثان هيل، صدرت لأول مرة عام 2016، ونالت وقتها إشادة واهتمامًا نقديًا كبيرًا، سواء في الولايات المتحدة، أو في باقي الدول التي ترجمت فيها الرواية إلى لغات مختلفة، لقوة أسلوبها، وأيضا لموهبة وبراعة مؤلفها في خلق شخصيات فارقة، تتجاوز سطحية ثنائية الخير والشر، لتغوص أكثر في غموض النفس البشرية.تبدأ الرواية بفضيحة تهز كل المتابعين في الولايات المتحدة: إذ تعرض حاكم يدعى باكر، وهو مرشح شعبوي في الانتخابات الرئاسية (لا يجد القارئ صعوبة في الربط بينه وبين ترامب)، لهجوم أمام الملأ وبحضور كل وسائل الإعلام."فضيحة باكر" المعتدية امرأة ستينية تدعى فاي أندرسون، تواجهه بالسباب ورمي الحجارة الصغيرة نحوه. التقطت وسائل الإعلام القصة وأطلقت عليها اسم "فضيحة باكر"، وبدأت تنسج القصص والأكاذيب حول حقيقة منفذة هذا الاعتداء.وحده صامويل، الأعزب الهادئ الخجول، وأستاذ اللغة الإنجليزية في جامعة شيكاغو، من يتجاهل الخبر، موزعا وقته بين عمله، حيث يتفادى شر الطلبة وسعي إحداهن للانتقام بعد ضبطها بتهمة الغش، ووقت فراغه، بانغماسه الكلي في عوالم لعبة إلكترونية، كل هذا مع مراوغته لناشره، الذي ينتظر منه مسودة رواية في أقرب وقت.متأخرا، يلتقط صامويل الخبر واسم المعتدية، ليكتشف أن الأمر يتعلق بوالدته التي تخلت عنه في سن مبكرة، فيقترح على الناشر اللحوح تأليف كتاب يتناول سيرة هذه الأم التي شغلت أميركا بأسرها، لتبدأ عندئذ رحلة إعادة بناء حياة صامويل وقبلها والدته، من أعمال الشغب في شيكاغو عام 1968 إلى ما بعد 11 سبتمبر في نيويورك، مرورًا بالنرويج في الأربعينيات والغرب الأميركي الأوسط في الستينيات، يقدم من خلالها الكاتب الأميركي الشاب ناثان هيل لوحة فنية متداخلة الألوان والأحداث عن واقع الولايات المتحدة بين الأمس واليوم، بأسلوب سردي مشوق يتخلله نقد أقرب للهزلي للمجتمع الأميركي ماضيا وحاضرا.كانت هذه الرواية إحدى أفضل قراءاتي في تلك السنة، ورغم انشغالي وقتها بمشروع كتابة، إلا أنني سمحت لما يقارب الألف صفحة بالتسلل إلى عالمي طوال فصل الصيف، ربما شهدت بعض الأحداث تمطيطا غير مبرر، إلا أن الدقة التي نقل بها الكاتب دواخل شخصياته المختلفة، خصوصا شخصية فاي (الأم) التي تكرهها بداية، ثم تتفهمها، قبل أن تجد نفسك متعاطفا كليا معها، لتنتقل بالتالي إلى فهم حقيقة المجتمع الأميركي المتشظي والمختلف تماما عن الصورة النمطية التي رسختها هوليوود، عن بلد اختار أن ينصب نفسه زعيما للعالم بأسره.