إذا كان هناك من وصف دقيق لصيف 2024 في تونس، فهو بالتأكيد صيف الزيارات الميدانية أو هو صيف انكسار الحواجز بين شارع يتطلع إلى الأفضل ودولة تتأقلم مع ثنائية الطموح والواقع. والحقيقة أن العمل على تأمين الخدمات العامة وسط مناخات التحدي للإكراه المناخيّ والإكراه المالي يبدو كما لو كان حفرًا في الصخر، لكنه يتواصل بإرادة لا تلين. ورغم أن البلد يعيش على إيقاع استحقاق انتخابيّ مصيريّ، فإن ذلك لم يمنع من إعطاء الأولية القصوى للمشاغل المواطنية اليومية في نشاط الرئيس التونسي قيس سعيد.. في كل مكان شمالاً وجنوبًا تتحرك الدولة نحو عمق الشارع في رصد دقيق لتفاصيل الحياة اليومية؛ الرئيس في حي الخضراء بالعاصمة لمراقبة مسألة رفع الفضلات، الرئيس في سيدي علوان بالمهدية لرصد مسألة الانقطاعات المتكررة للمياه.. الرئيس في جبنيانة والعامرة بصفاقس للوقوف على مستجدات ملف الهجرة غير النظامية.. الرئيس في محطة الميترو بالباساج للوقوف على مشاكل النقل في الصيف القائظ.. ومع كل لقاء بالمواطنين تتجدد المصارحة بصعوبة الظرف، ويتجدد معها الإصرار على مغالبة الصعوبات والتصدي للعابثين بقوت المواطن، ومواجهة كل أشكال الفساد المالي والإداري..لم ينقطع نسق هذه الزيارات اليومية التي كان آخرها هذا الأسبوع زيارة إلى مقر الإذاعة الوطنية التونسية أكد خلالها الرئيس على ضرورة إعادة البريق إلى هذا المرفق العريق وعلى وجوبية انخراطه الفاعل في حرب الحرير الوطني الجديدة.مسار 25 يوليووفي الواقع يحيل مصطلح التحرير الوطني إلى أساس من أساسات المشروع الفكري والسياسي لمسار 25 يوليو، وهو اعتبار مرحلة تفكيك المنظومة القديمة والقضاء على جيوب الإرهاب والفساد المالي والإداري جزءًا لا يتجزأ من معركة وطنية سيادية لا تقل قيمة عن المعركة الوطنية التي خاضتها تونس ضد الاستعمار. وكان الرئيس التونسي قد حدّد في خطابه الأخير بتاريخ 25 يوليو 2024 طبيعة الصراع بدقة حيث أكد على أن المعركة تدور بين نظام سياسي جديد وبين منظومة قديمة لم يتم تفكيكها بالكامل، وهذا ما شكل منطقيًا الخيط الرابط بين كل المواجهات الدائرة حاليًا سواء على الصعيد الانتخابيّ أم على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي. والواضح أن الدولة التونسية بنظامها السياسي الجديد قد اختارت أن تخوض معركتها بمشاركة الشارع المواطني الذي شكل نقطة القوة الرئيسية لمشروع 25 يوليو منذ بداياته. ويجدر التأكيد هنا على خطة اتصالية غير كلاسيكية اعتمدها الرئيس قيس سعيد وهو أن يخرج مصدر المادة الإعلامية من منابر الندوات الصحفية والتصريحات المكتوبة إلى الشارع لتكون اللقاءات المباشرة مع المواطنين هي مادة الخبر ومنطلقه التحليلي، وهو ما دفع منظومة الإعلام التونسي نفسها إلى التأقلم الصعب مع نمط جديد من الاتصال السياسيّ يكسر تمامًا الحواجز والوسائط بين المسؤول السياسي والمواطن. بين شيء من التعب خلفته المعارك المضنية مع الإكراه المناخي والاقتصادي والمالي؛ وبين كثير من الطموح إلى تذليل العقبات وتركيز المشاريع الكبرى والشراكات المثمرة، تبدو تونس كما لو كانت تضع حجر الأساس لقادم تنموي يحتاج وقتًا وصبرًا وعزيمة لا تلين.. ويحتاج أساسًا إلى شيء من الدقة في تطويع المهام المرحلية إلى الهدف الإستراتيجي الكبير.