في إطار الزيارات الميدانية المكثفة لمواقع العمل والإنتاج تركز نشاط رئيس الجمهورية قيس سعيد على جملة من المحطات في مناطق مختلفة من البلاد بهدف التشخيص الدقيق لمواطن الخلل التي شكلت لعقود بؤر التلاعب بالمرفق العمومي وبقوت المواطن عبر احتكار أنشطة اقتصادية حيوية من طرف لوبيات تتعمد تفليس الشركات العمومية وتصفيتها تدريجيًّا.زيارات ميدانية مختلفة قام بها رئيس الدولة يوم الأربعاء 20 ديسمبر الجاري شملت ولاية زغوان شركة تعليب المياه وولاية باجة وشركة تجميع الحليب وولاية تونس حيث المقر السابق للشركة التونسية لصناعة الحليب "ستيل"، والتي شهدت عملية تدمير ممنهج أفضت إلى تصفية نشاطها واستباحة ممتلكاتها، بشكل أفضى إلى سيطرة عدد من الخواص على نشاط تسويق الحليب ومشتقاته. ومن ضمن الاستخلاصات التي أفضت إليها الزيارات الميدانية للرئيس، وجود أثر واضح للتلاعب أدى إلى تراجع دور الدولة في إنتاج المواد الأساسية وتوزيعها بالشكل الذي يراعي دورها الاجتماعي في حماية المقدرة الشرائية للفئات الفقيرة والمتوسطة. شركات وطنية مستباحة تكالب على نهبها تحالف بغيض من حيتان المال والسياسة والإدارة عبر عقود، والنتيجة الظاهرة الآن أكثر من مفزعة. محتكرون لقوت الشعب أينما توجّهت تجد أثر اقتصاد الريع وملامح الصفقات الفاسدة بين بائع ما لا يملك ومشتر ما لا يستحق بأبخس الأثمان، وأثر تواطؤ مريب أدى إلى واقع لا يتماهى مع المبدأ الأساس للدولة التونسية الحديثة وهو أنها دولة اجتماعية راعية تقوم على المساواة في توزيع الثروة: تسويق الحليب ومشتقاته يحتكره بعض الأنفار، وتسويق أعلاف الماشية تحتكره بضع عائلات، الثروة المائيّة نفسها صارت في حقل تجارة حصرية لعدد من الأشخاص مالكي مصانع التعليب... والأمثلة لا تحصى عن لوبيات وكرتلات لم تترك مجالًا إلا وقتلت فيه ممكّنات المبادرة والتّنافس المشروع.. ولا نبالغ إن قلنا إن عشرية الإخوان التي راوغت الشّعب بشعار الحرية والدّيمقراطية قد ساهمت في تكريس هذا الواقع البائس، بل ورعايته والتّحالف مع حيتانه الكبرى ضد مصالح الشعب. ولا غرابة إذ وجدنا هذا التّحالف أول المناوئين لمسار الخامس والعشرين من يوليو 2021، حيث غالبًا ما تظافرت التّحركات السياسيّة البائسة للإخوان وحلفائهم مع اختفاء متعمد للمواد المعيشيّة من السوق بغرض إثارة غضب الشارع.. وإذ باءت كل هذه المحاولات بالفشل فإنّ ذلك عائد إلى تصميم من الدولة والشعب على عدم العودة إلى الوراء أيًّا كانت التضحيات والأثمان. لقد تعددت الأنشطة الميدانيّة والقرارات الجريئة الحاسمة لضرب الاحتكار والريع والفساد الإداري، آخرها كان ما أعلن عنه الرئيس قيس سعيد خلال زياراته لباجة وزغوان والعاصمة تونس، من قرارات بإعادة الشركة الوطنية لصناعة الحليب إلى سالف نشاطها، وبتدخل الدولة المباشر في قطاع تصنيع وتوزيع الأعلاف، هذا إلى جانب قرارات أخرى ستعيد المؤسسات المملوكة للدولة إلى صدارة الفعل الاقتصادي. تغيير الواقع يبدأ من هنا إن القطع مع الاحتكار هو مقدمة القطع مع التلاعب والفوضى والمضاربة بقوت المواطنين، وهو بالتالي مقدمة لمقاومة الفقر. ولا يتسنى المرور من مرحلة سياسيّة قاتمة إلى مرحلة أخرى جديدة من دون اقتلاع الجذور العميقة لتحالف مافيات السياسة والمال ضد مصالح الشعب، وعليه فإنّ ما نشهده الآن من تفكيك متواصل لمنظومة الريع والاحتكار هو استجابة لأبرز أولويات المسار الجديد في استرجاع قوة الدّولة، واستعادة وظيفتها الاجتماعية، وتكريس دورها التعديلي المهم للتحكم في الأسعار، وحماية المقدرة الشّرائية للتونسيين. إنّ المرحلة الحاسمة بدأت تعلن عن نفسها بقوة في انتظارأن تتجسم كما يجب، وأن تتنزل بقوّة الإنجاز على أرض الواقع الملموس.... وهذا هو المهم ليكون المسار في حجم الآمال.