لم تمر المشاركة التونسية في فعاليات منتدى دافوس الاقتصادي الدولي من دون أن تقدم إضاءات مهمة حول طبيعة الخطاب التشاركي الجديد للسلطات التونسية في علاقة بمنظومة التعاون الدولي على الصعيد الاقتصادي والمالي.فبالإضافة إلى النقاط التقليدية المدرجة في جدول أعمال المنتدى كالتعريف بالمزايا التفاضلية للاستثمار في تونس كانت لرئيس الحكومة التونسية أحمد الحشاني لقاءات على غاية من الأهمية مع كل من المديرة العامة لصندوق النقد الدولي ورئيسة المفوضية العليا للاتحاد الأوروبي. الوضوح سيد الموقف حيث ظلت العلاقة بين تونس وصندوق النقد الدولي مثار تأويلات متضاربة وتساؤلات كثيرة في الأشهر الأخيرة نتيجة تعطل التفاوض حول القرض المفترض إسناده لتونس بمبلغ يناهز الملياري دولار، فإن ما سبق من تصريحات واضحة للرئيس قيس سعيد، قد تم التأكيد عليه بكامل الدقة خلال اللقاء المذكور بين رئيس الوزراء التونسي ومديرة صندوق النقد.ويتركز هذا الموقف حول ثلاث نقاط أساسية: أولًا أن تونس لم تقطع جسر الحوار والتواصل مع الأطراف ذات العلاقة بالشراكة والتمويل، وثانيًا أن تونس تباشر أصلًا إصلاحات طوعية تتماشى مع متطلباتها الاقتصادية وتوازناتها الاجتماعية، وثالثًا أن تونس ليست على استعداد للتضحية باستقرارها المجتمعي بقبول إملاءات وإصلاحات مشروطة لا تنسجم مع صبغتها كدولة اجتماعية تراعي حاجات الفئات الفقيرة والمتوسطة، وتتمسك بالمؤسسات العمومية كمرفق خدماتي ورافد تنموي.وإذا كان ثمة أي حديث مستقبلي عن تمويل من الصندوق، فلن يكون إلا على أساس هذه الثوابت السيادية التي لا تقبل التجزئة. وبالمثل لم يخرج النقاش مع المفوضية العليا للاتحاد الأوروبي وهي الشريك البارز لتونس عن قاعدة المضي في تفعيل تفاهمات الشراكة الاقتصادية خارج أي مقايضة أو وصاية أو ضغط. لقد كان الوضوح سيد الموقف، وليس أفضل من ذلك لإقرار مدونة تعامل دولي ترتقي إلى مستوى الندية المطلوبة في عالم بدأت تنفتح فيه بوادر تنوع للأقطاب لم تخف تونس عزمها على التعاطي معه والاستفادة منه. تونس والشراكة العربيةالثوابت العربية حاضرة دائمًا وسط كل هذه المتغيرات المتسارعة والضاغطة لم تفرط تونس في ثوابت الشراكة والتعاون العربي الذي طالما فتح آفاقًا رحبة للتمويل والاستثمار.فإضافة إلى لقاءات دافوس مع كبار المسؤولين الماليين والاقتصاديين في الخليج العربي، سبق أن انعقدت لقاءات مهمة آخرها منتدى الاستثمار التونسي السعودي الذي أفضى إلى اتفاقات كبيرة للتعاون الاستثماري في مجالات واعدة كالطاقة والصحة والتكنولوجيا، هذا بالإضافة إلى مجالات تعاون أخرى مع دول عربية شقيقة كالكويت ودولة الإمارات وسائر دول مجلس التعاون الخليجي.والواقع أن هذه الشراكات العربية التي تتعزز باستمرار ظلت السند المتين لتونس، وتظل على الدوام رهانًا قوياً لمواجهة التحديات المستقبلية. ولا يخفى أن اتجاه الاقتصاديات العربية الكبرى إلى التعاطي الخلاق مع المتغيرات الدولية يتيح مساحات أكبر لفعل تنموي يتجاوز التصور النمطي للشراكة. ناهيك أن وجود المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات في مجموعة البريكس كمنظومة صاعدة هو مؤشر مهم لإيجاد أقطاب متوازنة تقدم خيارات أكثر مرونة وأكثر عدلا للدول المتطلعة إلى بناء شراكات واعدة ومنصفة.هكذا يمكن القول إن تونس بدأت تحسم بالفعل جوهر انتقالها السياسي التاريخي إلى الحقل الاقتصادي والتنموي برؤية متجددة تجمع بين جرأة القرار السيادي الرافض للتبعية والإلحاق وبين مرونة التمشي التشاركي الذي يتعامل مع مختلف الصيغ المتاحة والمساحات المفتوحة لتحقيق التطلعات.إنه خطاب الوضوح الذي يحاكي العالم بأوراق مكشوفة، في زمن لم يعد يحتمل إنصاف المواقف.